المشهد الأول: تساءل أحد العمال المساعدين ل(هيرودوت) المؤرخ الإغريقى فى رحلاته التجارية إلى الإسكندرية قبل الميلاد بمئات السنين قائلا: «سيدى لماذا تبدو عليك كل هذه السعادة؟» فأجابه (هيرودوت) مندهشا: ألم تلحظ يا رجل أننا قد وصلنا إلى شاطئ الإسكندرية الرائع بعد أن خُضنا الأهوال مع أمواج البحر المتوسط العاتية فشكرا لك يا إلهى العظيم. وعاد العامل يتساءل: «أنا أعمل بفريقك المساعد منذ سنين بنشاطك التجارى وأهبط معك إلى جميع الموانئ المتاحة دون أن يبدو عليك هذا الرضا وتلك البهجة؟ فيرد هيرودوت ضاحكا: ألم تلحظ أيها الساذج أن سكان الإسكندرية المصريين ينفردون بطباع مميزة فهم شعب لا مثيل له؟. ويصل عدد الأجانب المقيمين فى رحابهم إلى ثلث عددهم، فهم يتّسمون بالبشاشة التى يقابلون بها التجار والبحارة وحتى المغامرين الذين يبحثون عن مأوى ووطن. فلقد كانت تجربتى كتاجر قد كشفت لى أنه لا يوجد من يماثل المصريين فى رقة الطبع ودماثة الخلق والترحيب الحار الذى يشعرك فى لحظة وصولك إلى شواطئهم منهكا أنك قد هبطت إلى أهلك وأصحابك فينتهى شعورك بالغربة تماما». ويعود «هيرودوت» ليؤكد لأتباعه: هل تعرفون أن مصر تتميز بالحدود المفتوحة سواء من البحر المتوسط فى الشمال والصحراء من الشرق ومن الغرب وشبه جزيرة سيناء، التى مثَّلت الملجأ الرئيسى للقبائل الرعوية القادمة من كل حدب وصوب، وهى تحلم بالإقامة الدائمة فى جنة الله فى الأرض المسماة مصر. فمنذ عهود مصر القديمة، كان حُرّاس البوابة الشرقية لمصر يستقبلون اللاجئين من الرعاة قائلين لهم: «هل تملكون الأوراق التى تكتبون عليها طلبات اللجوء إلى مصر؟» والتى أصبحت فيما بعد تسمى ب«طلبات الفيزا». وعندما يَرُد اللاجئ «نحن لا نعرف الورق يا سيدى وإنما نحن نكتب على الرقاع من جلود الحيوانات وعلى العظام التى نحولها لصفحات للكتابة»، يرد عليهم حرس البوابات قائلين فى مرونة: «ما دمتم تطلبون الزيارة، وليس فى نيتكم العداء، فسوف نحل لكم المشكلة، فلدينا ورق البردى الذى سنعطيه لكم لتكتبوا عليه طلبات اللجوء ليدرسها الحاكم المصرى». • • • المشهد الثانى: ومن ناحية الصحراء الغربية يتقدم الرحالة المشهور «ابن بطوطة» القافلة الكبيرة المتجهة إلى المحروسة. فيتجه إلى قائدها قائلا: «تخلص من الأحمال الثقيلة ولا تكلف نفسك وتكلفنا الكثير للإنفاق على الأحمال والبعير والغذاء.. فطالما نحن على أبواب المحروسة مصر، فلن نكون بحاجة إلى أية أحمال، ففى أسواقها الغنية ستجدون كل ما تحتاجونه من متاع وطعام، وفى «تكاياها» و«أسبلتها» تستضيفكم مصر مجانا لأن الذى بناها كان فى الأصل حلوانى الطباع والأخلاق». وفى وكالة الغورى بقلب القاهرة القديمة يتكدس التجار القادمون ببضائعهم التى أتوا بها على ظهور البغال والجمال حالمين ببيعها والمكاسب التى سمعوا عنها ممن سبقوهم إلى السفر للمحروسة من قبل ثم عادوا إلى بلادهم وهم يتعجبون من جمال وضخامة أسواق مصر، ودرجة التقدم التى تحظى بها صناعاتها، وحرفها والتى بسببها قادت مصر فى عهد المماليك الحركة المهنية والصناعية ليس فى المنطقة فقط وإنما فى العالم المتحضر كله آنذاك. فتمتعت أسواق المحروسة بعرض منتجات ثلاثمائة «حرفة» أو «صنعة» كما كانوا يطلقون عليها آنذاك. ولا تزال شوارع قاهرة المُعِزّ القديمة تحمل أسماء هذه الصناعات المتفردة. فنجد حارة «السيوفية» وهم صناع السيوف وحارة الصاغة لصناع المجوهرات و«الصناديقية» لصناع الصناديق وسوق السلاح لبيع الأسلحة القديمة.. وهكذا. وما أن يصل التاجر المغترب إلى وكالة الغورى التى ذكرناها حتى يجد فى استقباله من التجار المصريين المتخصصين فى نوع البضائع التى أتى لبيعها لهم. فيرحبون به بحفاوة لم يعتدها فى البلاد الأخرى ويعرضون عليه الإقامة فى وكالة الغورى بغرفها المريحة المتعدِّدة، كما يحملون عنه المهام التى اعتاد أن يتحمّلها فى البلدان المجاورة، كما يساعدونه بروح الحماسة المصرية فى ترويج بضائعه بعد أن استضافته بالوكالة دون أن يساوموه على شىء كما يفعل غيرهم فى البلاد الأخرى. فتكون النتيجة الطبيعية لهذه الحفاوة التى يلاقيها الغريب فى بلدنا أن يحرص الكثيرون على العودة فى السنة القادمة. ولكن ليس بمفرده أو برفقة زملائه من التجار وإنما بكل ماله، وبرفقة أهله وكل من يحبهم ويعيش معهم فى بلده حالما بأن يعيش فى المحروسة ما بقى له من العمر برفقة من أصبح يحبهم كأهله من رفاقه المصريين. • • • المشهد الثالث: وإلى غرفة الأرشيف التى تجذبنى وثائقها إلى سِجِلّ أسمائنا أعود لأتأكد من المشاهد السابقة بعد أن اتهمنى البعض بالوقوع فى غرام المحروسة إلى الحدّ الذى لا أرى فيها سوى كل ما هو جميل ونبيل وأخّاذ. ولم تخيِّب وثائق الأرشيف أملى أبدا فى الحصول على كنوزها وإليكم النتائج: عند مراجعة سجلات شهادات الميلاد وجدت أن معظم الأسماء تنتهى بألقاب تنتمى إلى البلاد التى أتى منها المهاجرون إلى المحروسة منذ مئات السنين فمثلا: نلاحظ عندما نكتب اسم شخص وننسبه إلى الأب ثم الجَدّ ثم لقب العائلة، فسوف نلاحظ أن ألقابا مثل: «فلان الشامى» أى الذى انتمى إلى بلاد الشام عند الجد الرابع أو الخامس. فإذا راجعنا أسماء الكثيرين من أصدقائنا، فسنجد فى ألقابهم ما يدل على الأصل القادم إلى المحروسة. فهناك مثلا: حمزة الهندى وحسن العراقى ومحمد السودانى وبيرم التونس ومحمود المغربى وصفوت الكردى وأحمد السعودى. ناهيك عن جمال الدين الأفغانى ورجال الحملات الألبانية والأرنائوط الذين استوطنوا المحروسة فى بدايات القرن التاسع عشر.. والقائمة تطول ولا نجد لها آخر. أضف بالطبع أسماء مثل سليمان باشا الفرنساوى الذى أتى إلى مصر مع غيره من المهندسين والأطباء الذين استدعاهم محمد على فى بدايات القرن التاسع عشر من فرنسا، للمساعدة فى بناء النهضة المصرية عندما عانوا من انغلاق فُرَص العمل فى وجوههم فى بلدهم الأم «فرنسا»، وكانوا يدينون بمذهب «الإنسانية» الذى اعتنقه الفيلسوف الفرنسى (سان سيمون) مع رفاقه الذين وجدوا فى المحروسة ضالتهم فى العمل والإنجاز والمهنة والوطن. فأسلم بعضهم فكان نموذج سليمان باشا الفرنساوى نموذجا تاريخيا حاسما لحركة الانتماء للمحروسة. وأتساءل فى سعادة، هل هناك بلد يمكنه الادعاء أنه لم يرسل من مواطنيه إلى المحروسة من يلجأون وينتمون ويسعدون بصحبة أهلها.. وإلى مشهدٍ جديدٍ من أسمائنا فى المقال القادم.