عندما تسير في القاهرة الفاطمية اليوم وتحديدًا بشارع المعز لدين اللّه يلفت نظرك مشاهد المآذن العالية التي يضمها هذا الشارع، فهو يمتد من باب الفتوح شمالًا وحتي باب زويلة جنوبًا، لم يكن ذلك وليد الصدفة بالطبع، فوجود هذه المآذن العالية يرجع إلي أن السلاطين كانوا يتنافسون بينهم علي بناء المساجد بهذه البقعة باعتبارها سوق التجارة الدولية في العالم، لكن اللافت للنظر أيضًا أن المنطقة اليوم لم تعد منطقة تجارة عالمية كما كانت في الماضي لكنها ظلت محتفظة بشكلها التجاري. أغلب الاختلافات التي طرأت علي شارع المعز جاءت في منطقة الصاغة، فهي تحفة معمارية، ومن الممكن أن نسميها »المكان الراقي» الذي يحتفظ بشكل القاهرة التاريخية كما كانت في الماضي، محال الذهب والمجوهرات تنتشر بهِ والواقفين علي المحلات مُهندمين الشكل، أغلبهم يلبسون قميصًا وبنطلونًا، ومعظم المارين بهذه الشوارع من الأجانب، وهذا تناقض قلما يحدث في العالم، أن تجتمع الأرستقراطية مع الحواري في مكانٍ واحد، وهذا بالطبع أمر لا يحدث كثيرًا. بمآذنهِ العالية وبأسبلتهِ وحواريه الضيقة تتوقف عن السير بسبب قطع شارع الأزهر لهذا الشارع التاريخي - كما ذكرتُ في الحلقة السابقة - ففي الجهة المقابلة وتحديدًا في الجزء الجنوبي من شارع المعز عند مجموعة السلطان الغوري، يظهر تناقض القاهرة التاريخية، فهي أشبه بالسويقة (المكان الذي تعرض فيه البضاعة المتنوعة في الشارع) وهو اليوم مكان لبيع الولاعات والأواني البلاستيكة والمنتجات زهيدة الثمن، جميع الباعة هنا يقفون وينادون بأعلي أصواتهم ليروجوا لبضائعهم. مكان عبثي شديد العشوائية يمكن أن نصفه بأنه قد أصبح امتدادًا للمناطق العشوائية المحيطة بهِ كالدرب الأحمر والمغربلين، ويمكن أن نقول أن سبب ذلك يعود - كما ذكرت - إلي شارع الأزهر، الذي حوَّل هذه البقعة من أرض كان يتوجب دخولها تصريحًا إلي مكان تقف فيه »التكاتك» متراصة انتظارًا للركاب. بغض النظر عن هذه العشوائية، لو دققنا في ملامح المنطقة سنلاحظ أنها لم تختلف كثيرًا عن شكلها في الماضي فقد كانت سوقًا دوليًا لتجارة الحرير والمنسوجات والتوابل وكانت جزءًا من طريق الحرير، حيث كان يُسمي موقع الغورية الآن بسوق الشربشيين (شربوش هو الطربوش الذي يوضع علي الرأس)، كما كان هذا السوق مزدهرًا كذلك بالتوابل وبالمنسوجات وكان يضم تجارًا يحملون جميع جنسيات العالم. مقصد الملوك والسلاطين لم تكن القاهرة التي بناها جوهر الصقلي كشكلها اليوم بالطبع، وإنما أراد أن تكون مدينة ملكية تضم قصور الحكم والبساتين والحدائق، فبني القصر الكبير (قصر الخلافة) الفاطمي الموجود مكانه الآن عند خان الخليلي في الجنوب وحتي الجامع الأقمر الواقع في الشمال، وبني الجامع الأزهر في الجزء الجنوبي من هذه المنطقة، ووزعت الحارات (حارة بمعني حي) فكانت كل حارة تضم مجموعة من فرق جنود الجيش الفاطمي، كانت هناك حارة العطوفية وحارة زويلة وحارة الروم، وكل حارة تضم الجنود وعائلاتهم، أما المنطقة الواقعة من جامع الأزهر وحتي باب زويلة فكانت تضم الأزهر - جامع الدولة آنذاك - ومقسمة لعدة حارات منها حارة الباطنية وحارة الديلم (الديلم منطقة تقع بإيران). كذلك العزيز بالله بن المعز؛ أنشأ قصرًا في الجزء الغربي، الموجود اليوم عند شارع الخرونفش، والجزء المتبقي منه هو قاعة ست الملك، وهي عبارة عن مستشفي في الوقت الحالي، وكان بالمنطقة كذلك ميدان كبير يسمي بميدان ما بين القصرين، يقول المؤرخون إنه كان يستوعب أكثر من 10 آلاف فارس يستعرضهم الخليفة، مما يدل علي أن هذه المنطقة قد بني عليها الكثير من المباني بعد تلك الفترة، ويدل أيضًا علي أن شارع المعز لم يكن أبدًا بشكله الذي يبدو عليه اليوم. عندما أراد السلطان الغوري أن يترك أثرًا هامًا لهُ، بناه داخل منطقة التجارة العالمي، فأراد أن يبني مجموعته المسما] اليوم بمجموعة السلطان الغوري داخل طريق التجارة العالمي، لكنهُ بناها بشكل معلق حتي لا تتأثر حركة التجارة ويضطر لإزالة بعض الدكاكين والحانات الموجودة بالمنطقة التجارية فأنشأ قيصرية كاملة تحت الجامع وهي عبارة عن ممرات تحتوي علي دكاكين مازالت موجودة حتي الآن ومازالت تبيع المنسوجات مثل الماضي، فهي سوق كبير لبيع الأقمشة الحريرية وعندما تتخطي مجموعة السلطان الغوري تجد بالشارع سوق خاص بالمفروشات، هذا السوق لم يعرض هذه المنتجات من وليد الصدفة لكننا لو نظرنا لتاريخ تطور هذه المنطقة سنجد أن هذا الشارع عندما أنشأه جوهر الصقلي أراد أن يربط شمال المدينة بجنوبها وأن تطل القصور الفاطمية عليه. أيضًا عندما انتهت الخلافة الفاطمية وجاء صلاح الدين الأيوبي بدأ يغيِّر شكل هذه المنطقة بشكل كبير، فأخذ يوزع أملاك الفاطميين علي عائلته وجنوده، ومن هنا بدأت الأسواق تدخل لهذه المنطقة، التي لم يكن بها سوي وكالة واحدة تحتوي علي حوانيت ومخازن، وفي الدور الثاني كانت تضم سكن. كان هناك بيت يسمي ببيت المأمون البطائحي، الذي يحمل اليوم اسم جامع الشيخ المطهر، أخذه صلاح الدين وحوَّله الي مدرسة باسم المدرسة السيوفية نسبة لسوق السلاح الذي كان موجودًا في هذه المنطقة، وقد وصف المقريزي ذلك في كتابه »الخطط» قائلًا: »وانتُهِكت حرمة القاهرة»، لأنها لم تعد تلك المدينة الملكية التي يعبر من خلالها الخليفة وحاشيته وجيشهِ، ولم يكن يُسمح لأحد بدخولها إلا بإذن. بعد أن سقطت الخلافة العباسية ببغداد عام 656 هجريًا أصبحت القاهرة عاصمة العالم الإسلامي وقام الظاهر بيبرس بإحياء الخلافة العباسية بمصر مما أضاف أهمية كبري للمدينة، وأثر ذلك علي حركة العمران وبدأت تظهر الوكالات وازدهرت المنطقة بالأسواق، التي كانت تطل جميعها آنذاك علي الشارع الأعظم (شارع المعز حاليًا)، وظهر الرُبع (بيت متعدد الأسر) وبُنيت الحمامات بكثرة، لأن القاهرة كانت مدينة فقيرة مائيًا بسبب فيضان النيل الذي يأتي سنويًا لحوالي ثلاثة شهور تقريبًا. فتاوي »القهوة» هذه كلها كانت تغيرات متتالية أثرت علي شكل القاهرة التاريخية آنذاك، فهذه المنطقة علي سبيل المثال تضم الكثير من »القهاوي» ولم يكن ذلك أيضًا من سبيل الصدفة، فعندما ذهبتُ إليها وجدتُ أن الأمر ليس متعلقًا بالمكان السياحي وضرورة أن تلحق بهِ مقاهي، لأنني رأيتُ في الحواري والعطوف الكثير من هذه المظاهر التي يبدو أن وراءها سر وحكاية. نبهني الدكتور حسام إسماعيل، أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة عين شمس، إلي أن المنطقة كانت مزدهرة بتجارة البن منذ القرن ال16 وكانت تضم العديد من الوكالات الخاصة بالبن القادم من اليمن، منها وكالة إسماعيل أبو طاقية، وعندما بحثت عن سبب دخول القهوة مصر وجدتُ أن البن قد دخل من خلال طلبة الأزهر اليمنيين، وتهافت عليه الطلاب بشدة نظرًا لأنه مشروب منبه وقوي ويساعد علي التركيز أثناء المذاكرة، وبعد ذلك عرفه الشارع المصري في أوائل القرن السادس عشر، وأقبل عليه المصريون بكثرة، فتدَّخل رجال الدين وحرَّموه، لأن النبي صلي الله عليه وسلم والصحابة لم يشربوه وبذلك يعتبر بدعة وشاربه في النار. في بداية سنة 1572 ميلاديًا صدرت فتوي من الشافعية بتحريم تناول القهوة، مما أدي إلي هياج العامة حتي قاموا بتكسير المقاهي التي تُقدم هذا المشروب الحرام، وفي نهاية العام تصاعد الغضب الشعبي ضد القهوة وكثرت تحريضات أئمة الجوامع ضدها وضد شاربها وحاملها، حتي صدرت فتوي رسمية بغلق جميع المقاهي ومصادرة البن، بل وتكسير الأواني، وانتشر العسس (من يطوفون بالليل ويحرسون البيوت ويكشفون أهل الريبة واللصوص) يقبضون علي شاربي القهوة وتجارها. وهنا اتحد تجار القهوة مع المدمنين الجدد وطلبوا فتوي جديدة من الشيخ أحمد السنباطي الذي أفتي بالقول: »مادامت القهوة تؤثر في العقل إيجابًا أو سلبًا فهي حرام» مما تسبب في نشوب معركة بين الشيخ ومؤيديه وبين التجار ومدمني المشروب الحرام، انتهت بمقتل أحد المدمنين، ليهرب الشيخ ورجاله إلي الجامع، ويحاصره التجار والمدمنين. في أثناء الحصار مات رجل آخر من أنصار القهوة، وقام أهله بنصب صوان العزاء خارج الجامع المحاصَر، ونكاية في الشيوخ قام أهل القتيل بتوزيع قهوة سادة في العزاء، وعندما وصل الأمر للسلطان العثماني أقال المفتي وعيَّن مفتيا جديدا أفتي بجواز شرب القهوة. ومن هنا نجد أيضًا أن عادة شرب القهوة السادة في العزاء كان أصلها نابع من هذه المنطقة. بعد ذلك ظلت المناوشات مستمرة من جانب المتشددين، لكنها كانت تتلاشي أمام النشاط الاقتصادي الذي أضاف إلي التجارة الدولية البُن، فقد كان إيرادها مرتفعا ويوميا. ولا يمكن - أيضًا - نسيان دور طواف الصوفية الذين كانت القهوة من طقوسهم. هذه الأسباب تجعلنا اليوم نري تلك »القهاوي» الكثيرة في هذه المنطقة، إنها ظاهرة ضحي لأجلها شابان بحياتهما، حتي ننعم بشُرب قهوتنا علي مقهي الفيشاوي اليوم بصحبة موسيقي وأغاني أم كلثوم. اكتشاف الأمريكتين نشاط هذه المنطقة التجاري أدَّي كذلك إلي أن السلطان برسباي قرر شن حملاته علي قبرص، فأرسل ثلاث حملات للسيطرة عليها لأنه أراد أن يحتكر السلع وأن يفرض ضرائب مرور علي التجارة باعتبار أن مصر في وسط طريق التجارة العالمية، مما أدَّي إلي أن البرتغاليين والإسبان رغبوا في أن يتفادوا مصر نظرًا لرسوم الضرائب المفروضة عليهم، فاكتشفوا رأس الرجاء الصالح للدوران حول إفريقيا ومن ثم اكتشف كولومبوس الأمريكيتين، وبالتالي كانت مصر وهذه المنطقة تحديدًا، بسبب ضرائبها الباهظة، سببًا لتفكير الدول الأوروبية لاكتشاف العوالم الجديدة، ومنها أتوا لنا بالبن البرازيلي عوضًا عن اليمني. هذا الأمر يجعلنا نقف ونتأمل؛ لأن الصين في الوقت الراهن عقدت مؤتمرًا دوليًا يُسمي »الحزام والطريق» لإحياء طريق الحرير القديم عبر نقل البضائع التجارية من خلال آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر مد شبكة قطارات واسعة تجعلنا، علي سبيل المثال، نختصر مسافة نقل البضائع من مصر إلي إفريقيا في 12 ساعة بدلًا من ثلاثة أيام، لهذا يجب المحافظة علي مباني هذه المنطقة التاريخية باعتبارها طريق الحرير القديم وباعتبار أنها كانت القاعدة الأخيرة لطريق الحرير لنقل البضائع التي تأتي من الصين وشرق ووسط آسيا عبر الإسكندرية إلي أوروبا، والمدينة اليوم لاتزال محتفظة ببواقي المباني التجارية من خانات ووكالات، وتحتفظ بالتجارة التي كانت عبارة عن منسوجات حريرية وقطنية وتوابل. كل هذه الأحداث جعلت من المدينة اليوم لوحة فنية متماسكة لم يغب حاضرها عن ماضيها ولم ينفصلا، لكنها تحتاج إلي من ينظر إليها بعين التاريخ ليجد حكاياتها مبعثرة في أذقتها وحواريها وعُطفها، فعيون سكانها تحمل في طياتها الذكريات والمدينة.