خارج النطاق التقليدى لاهتمامات القارئ العربى والمصرى فى الرواية وأدب السيرة والجريمة، يأتى كتاب «300 ألف عام من الخوف للدبلوماسى جمال أبو الحسن، عن الدار المصرية اللبنانية، ليضع القارئ فى القلب تماما من موضوعات شديدة الإنسانية والتعلق بالواقع الإنسانى والتجارب البشرية، حول النجاة والوعى واللغة والطاقة. تم بناء الكتاب على شكل سلسلة من الرسائل الإلكترونية بين الأب وابنته خلال فترة العزل المفروضة بسبب اصابتهم بفيروس كورونا. يبدأ الحوار بينهما بتعبير الابنة عن خوفها وقلقها من هذا المرض، فى حين يرد الأب عليها بعرض لتاريخ القلق منذ بدء البشرية، مستعرضًا فى ذلك تجارب الإنسان فى مواجهة الأوبئة والأمراض، بدافع الطمأنة، وعبر أسلوب شديد العذوبة والسلاسة. المحطات السريعة التى مر بها المؤلف لم تخل أبدا من التركيز الشيق على موضوعات تخص التجربة البشرية فى مواجهة المخاطر، وهو ما جاء إجمالا ليحقق نجاحا خارج الحيز المعتاد الخاص بالرواية وأدب الجريمة والسرديات التى راجت على مدار سنوات طويلة، حيث يشرح الكتاب إجمالا قصة الحضارة الإنسانية، وكيف وصلنا لما نحن فيه اليوم من نظام معيشى، حيث دولة، وعلم، وثقافة وعلوم إنسانية. يتأمل الكتاب بين دفتيه المشوار الطويل الذى استغرقه الكفاح البشرى لمواجهة الأخطار بالسليقة وبشكل فطرى، عبر تحقيق التقدم العلمى المذهل الذى وجد نفسه مواجهًا لغزًا كبيرًا فى شكل فيروس كورونا، والذى عجز العالم لفترة عن التعامل معه، مما أدى إلى إعادة البشرية كلها إلى الخانة صفر، وقام بتعرية العجز البشرى وفضح مخاوف الإنسان أمام المآذق الوجودية التى قد يتعرض لها بشكل طارئ. أجزم عديد من القراء والنقاد على أن الكتاب الخاص بجمال أبو الحسن، يفتح الشهية للاستزادة، ويطرق الأفكار للتلاقح، ويمهِّد الطريق سلسا أمام العديد من المعارف الجديدة التى يحتاج القارئ للتعرف عليها، وأنماط جديدة من المؤلفات المتعلقة بالتراكم المعرفى والتحديات الحضارية الحقيقية، مع استعراض ذلك كله بشكل بانورامى شيق. تتدفق على مدار صفحات الكتاب العديد من الفرضيات الجذابة، وكيف يمكننا أن نجعل من الخوف والقلق الإنسانى، أكبر باعث نحو تفسير الطبيعة ومواجهة تحدياتها وتجنب نوبات غضبها وتهدئة فورانها أمام العجز الإنسانى، وذلك كله فى قالب مدعوم بلغة تناسب القارئ المتطلع إلى التعرف على المزيد من صفحات الكتاب دون بطء أو تكلف لغوى. يكشف كتاب «300 ألف عام من الخوف» للكاتب الدبلوماسى جمال أبو الحسن عما يملكه الكاتب سعة اطلاع كبيرة تجمع بين علوم شتى منها الفيزياء والتاريخ الطبيعى إلى جانب الفلسفة وعلم التاريخ بشتى مدارس تفسيره وأبهرتنى قدرته على الانتقال بالتفسيرات دون إخضاعها للمثالية الاخلاقية، رغم انحيازه الأصيل للمدرسة العقلانية فى التناول والمعالجة والتحليل، حيث يطرح الكتاب أمامنا يقين حقيقى عن مقدار تمتع الكاتب بقدر هائل من الثقافة الموسوعية التى أفادت القارئ بحق. يذكرنا المؤلف بمجموعة من المحاولات الناجحة، التى سارت على الدرب نفسه فى تناول تاريخ الجنس البشرى، عبر منظور أنثروبولجى خالص، مع كامل الاحتفاظ لنفسه بنقاط من التميز فى تناول تلك التوليفة المتعلقة بماضى وحاضر ومستقبل البشر، حيث يمر القارئ مع الكاتب عبر رحلة طويلة استغرقت البشرية منذ اللحظات الأولى لفجر التاريخ، حتى بلوغنا للمحطة الآنية فى الواقع الفعلى والحاضر المعاش، حيث شكل «300 ألف عام من الخوف» كان الكتاب بمثابة بوابة كبيرة تنفتح على عشرات الأبواب المعرفية الأخرى، فى علم الاجتماع، والفلسفة، والأساطير، والفيزياء، والأديان. يسيطر الحس الإنسانى على الكتاب بشكل كبير، ولا يفارق القارئ طوال مشواره فى الكتاب إحساس يتعلق بأن المؤلف سيطرت عليه رغبة أبوية فى طمأنة ابنته التى لم تكن قد بلغت عامها الرابع عشر حين أطلت الجائحة وأقلقها الخوف منها وبدأت فى صياغة أسئلتها عن صراع البشرية مع فكرة الفناء، وعبر بريدها الإلكترونى تلقت من الأب إجابات حول ما يشغلها، لتبرهن على أن الإنسان مشغول على الدوام بفكرة الفناء والموت. ويسلط الكاتب الضوء على الدوام نحو السعى الدءوب للإنسان للبقاء على قيد الحياة وتجاوز هذه الحقيقة المؤلمة، ومع ذلك، فإن هذا الصراع مستمر ولا يزال يشغل بال الإنسان ويأتى الدليل على ذلك الكتاب الملىء بالمراجع المهمة العربية والإنجليزية الذى يضع القارئ أمام مسئولية إبداء التقدير والتشجيع لكم الجهد المبذول فى هذا المؤلف.