تمثل الجريمة الطائفية الشنعاء التى راح ضحيتها سبعة مواطنين قتلى أبرياء غير المصابين بعد قداس عيد الميلاد المجيد فى السادس من هذا الشهر بمدينة نجع حمادى حلقة ضمن مسلسل العنف المتواصل والدامى والمؤلم والمهدد لأمن مصر واستقرارها والذى يرتكبه مواطنون مصريون ضد مواطنين مصريين آخرين يختلفون عنهم فى الديانة (مسلمون ضد مسيحيين). وعادة ما ينبرى كتاب ومحللون إلى التهوين من هذه الأحداث واختزالها إلى حالات فردية يمكن التعامل مع كل منها على حدة وعادة ما تعقد فى كل مرة جلسات للصلح بين المعتدين والمعتدى عليهم وتطلق الخطب عن الوحدة الوطنية ويتعانق الشيوخ والقساوسة داعين الناس إلى الهداية والمحبة مع شجب وإدانة العنف. وهذا الاختزال للعنف الطائفى الموجه أساسا ضد المواطنين المسيحيين إلى أسباب فردية وسيكولوجية وموقفية هو نفسه الذى يتبعه المحللون عند تناولهم لجميع أشكال العنف الأخرى فى المجتمع مثل العنف ضد المرأة والعنف الأسرى والعنف السياسى والعنف الأمنى (من الشرطة وضد الشرطة) والعنف الجنائى والعنف ضد الأطفال... إلخ. ونتيجة لهذا الاختزال؛ سواء عن قصد أو عن عدم وعى، يأتى الفشل الكامل لأساليب مواجهة جميع أشكال العنف فى المجتمع مما يترتب عليه استمرارها بل وتفاقمها نظرا للتغافل عن الجذور الاجتماعية الحقيقية للعنف أو ما نطلق عليه العنف البنائى أو المؤسسى أى المتضمن فى النظم الاجتماعية. إن كل مجتمع (بما فى ذلك المجتمع الدولى) تحكمه نظم أو أنساق اجتماعية فى مختلف مجالات الحياة: الاقتصادية والسياسية والأسرية والتربوية والدينية والثقافية. هذه النظم تضم القواعد أو المعايير الرسمية وغير الرسمية التى تحكم العلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض والجماعات وبعضها البعض فى مجال ما من مجالات الحياة وتحدد لهم أدوارهم ومكاناتهم والجزاءات التى يحصلون عليها (المثوبة والعقوبة) بل وتحدد شروط شغل هذه الأدوار منذ البداية (قوانين الأحوال الشخصية مثلا تحدد شروط الزواج والعلاقة بين الزوج والزوجة والأبناء وواجبات وحقوق كل منهم... إلخ). هذه القواعد أو القوانين يمكن أن تكون منحازة لأطراف فى العلاقة وضد أطراف أخرى مما يؤدى إلى وضع طرف فى مكانة أدنى من الآخر وحرمانه من مزايا معينة وهو ما يشكل العنف البنائى والذى يترتب عليه توتر بين الأفراد أو الجماعات وصراع وقد يؤدى إلى عنف مباشر. وأى تعديل أو تغيير فى هذه القواعد يحقق تكافؤ الفرص أو المساواة بين الأطراف يترتب عليه تقليل التوتر والصراع وبالتالى تقليل العنف الشخصى. مثال ذلك، قوانين الأحوال الشخصية فى مصر التى كانت تعطى الزوج فقط الحق فى إنهاء العلاقة الزوجية (الطلاق) وكان ذلك مسئولا عن زيادة حدة التوتر والصراع بين الزوجين فى حالة عدم رغبة الزوجة فى استمرار الحياة مع زوجها وعجزها عن الحصول على الطلاق والتى ارتبطت بالعنف الجسدى والمعنوى المتبادل بين الزوجين، وقد ترتب على إعطاء الزوجة الحق فى إنهاء العلاقة الزوجية (الخلع) تخفيض حدة العنف فى الأسرة. ويمكن التعرف على الأنماط التالية من العنف البنائى (أى القواعد والمعايير الرسمية (القوانين) أو غير الرسمية (الأعراف والتقاليد) عنف الصفوة ضد الغالبية: 1 أى عنف أولئك الذين يحتكرون السلطة (النفوذ) والقوة السياسية أو الاقتصادية. ويتمثل هذا العنف فى حرمان الآخرين (وهم الأغلبية) من المزايا السياسية والاقتصادية والثقافية التى يتمتعون هم بها مثل التمثيل النيابى ومثل فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية والسكن والمواصلات والترفيه. ويتم ذلك بإجراءات ذات طابع قانونى إما بشكل مباشر أو غير مباشر ويؤدى ذلك بالضرورة إلى تنامى مشاعر الإحباط والظلم لدى المواطنين والتى يؤدى تراكمها إلى انفجار لمظاهر العنف الفردى والجماعى ضد الصفوة ورموزها أو ضد كباش للفداء. 2 العنف الطبقى، حيث يشعر أفراد الطبقة المسيطرة بتميزهم من حيث النسب أو الثروة أو الثقافة عن الطبقات الأخرى، ونظرا لقدرتهم الاقتصادية فإنهم يسخرون أفراد الطبقات الأخرى لخدمتهم ويتحكمون فى مصائرهم ويتعالون عليهم مما يخلق أيضا مشاعر الإحباط ويفجر العنف. 3 العنف العرقى، وهو شعور جماعة ما تنتمى إلى أصول ثقافية أو دينية معينة بالتميز عن غيرها من الجماعات وبأحقيتها فى الاستحواذ على النفوذ والثروة وسيادة ثقافتها على ثقافة غيرها من الجماعات مما يترتب عليه حرمان الجماعة أو الجماعات الأخرى من الكثير من المزايا أو فرص الحياة أو وضعهم فى مرتبة أدنى فى المجتمع: وذلك بالتشريعات أو بنشر ثقافة التميز العرقى وينجم عن ذلك بالطبع توترا وصراعا وبالتالى سلوكيات عنيفة (الفتنة الطائفية). 4 العنف المتعلق بالنوع: ويترجم ذلك بنائيا بحرمان النساء من الكثير من الحقوق السياسية والاقتصادية بل وتقييد حرياتهم بالتشريع والأعراف والعادات والتقاليد (حرمان النساء من الترشيح ومن التصويت فى الانتخابات ومن شغل الوظائف العامة العليا ومن التعليم ومن التنقل وحتى من قيادة السيارات... إلخ) ويرتبط ذلك بسلوكيات عنيفة ضدهن (التحرش الجنسى والاغتصاب مثلا) وأيضا بسلوكيات عنيفة من جانبهن كرد فعل على اضطهادهن). 6 العنف المتعلق بالأيديولوجيات: وهو ما أرى أنه الموجه ضد المثقفين الذين لهم رؤى سياسية واجتماعية وثقافية مخالفة للرؤى السائدة والذين يحرمون بنائيا سواء بشكل صريح أو خفى من التعبير عن رؤاهم بل ومن تولى المناصب الثقافية. ولا يخفى علينا بالطبع التداخل بين هذه الأنماط المختلفة من العنف البنائى. التجسيد الواقعى للعنف البنائى يتجسد العنف البنائى فى «التباين الذى يمكن تجنبه بين إمكانية إشباع الاحتياجات الأساسية المادية والروحية أو المعنوية وتحقيق الطموحات وتكافؤ الفرص بين فئات المواطنين وبين الإشباع الفعلى لهذه الاحتياجات». وهكذا نجد أن العنف البنائى يختلف عن العنف الشخصى، فالعنف البنائى حالة عامة تنتج ظروفا تتسم بالعنف ولكن لا نجد فيه أشخاصا بأعينهم، كما هو الحال فى جرائم القتل يمارسون عنفا ضد أشخاص آخرين. إلا أن هذه الظروف العنيفة تخلق لدى الذين يعيشون فى ظلها ظروفا قاسية وعنيفة، فمعظم جرائم العنف التى يرتكبها الأفراد تقع من قبل أولئك الذين يعيشون فى ظروف خلقها العنف البنائى (الفقر مثلا). إن العنف البنائى الذى ينتج عنه عدم توفير وسائل مواصلات ملائمة للفقراء مما يجعلهم يتزاحمون بشدة عند انتقالهم من مكان لآخر ينجم عنه سلوك عنيف تجاه بعضهم البعض، وقد قرأنا عن حوادث القتل أو الضرب المفضى إلى الموت فى المشاجرات التى كانت تقع بين المتزاحمين أمام المخابز للحصول على رغيف العيش. والعنف البنائى الذى يخلق ظروف الفقر التى لا تمكن الشباب من الزواج لإشباع احتياجاتهم الجنسية يؤدى إلى ارتكابهم أفعالا عنيفة مثل الاغتصاب أو التحرش الجنسى. والعنف البنائى الذى يؤدى إلى العشوائيات وانعدام السكن الملائم يؤدى إلى الزنا بالمحارم والاغتصاب. إن اتجاه الدارسين لموضوع العنف إلى التركيز فقط على دراسة وتحليل العنف الشخصى (بين الأفراد أو بين الجماعات) مع إهمال العنف البنائى يؤدى إلى وضع حلول غير عملية وغير واقعية لمواجهة العنف تتسم بالقصور والتجزيئية. مثال ذلك مواجهة العنف الطائفى بالخطب التى تؤكد وحدة الأمة وعقد جلسات الصلح بين الأطراف وتهدئة النفوس وكل ذلك ثبت فشله لأن العوامل البنائية التى خلقت الظروف المهيئة للعنف الشخصى بين الأفراد أو الجماعات لم تتم مواجهتها عن طريق التشريعات والسياسات التى تقضى على التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو غيرها من الصفات. إننا فى أشد الحاجة إذا أردنا الاستقرار والنماء لمصر إلى وقفة شجاعة مع الذات تؤدى إلى إعادة النظر فى كل ما تتضمنه نظمنا الاجتماعية؛ (السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية ومؤسساتنا الدينية) من قواعد رسمية وعرفية تميز بين المصريين فى كل مجال وتحض على الكراهية وعدم تقبل الآخر ليس فقط على أساس الدين ولكن على أى أساس آخر مما يخل بمبدأ المواطنة الذى نص عليه الدستور فى مادته الأولى.