ما تحتاجه السكة الحديد يحرم على العاصمة الإدارية الجديدة. لعل مثل تلك التعليقات عن أولويات الحكومة فى الإنفاق هى أكثر ما أجمع عليه المعلقون على اختلاف مشاربهم، حتى بالرغم مما يبدو عليه الأمر وكأن سائقا تسبب بإهماله فى حادث القطار الذى راح ضحيته العشرات من المصريين. هناك إحساس عام بالخلل فى الأولويات. هل يريد الشعب بناء أطول برج فى إفريقيا؟ هل يريد مدارس حكومية نموذجية ومجانية؟ هل يريد إسكانا اجتماعيا للتملك أم للإيجار؟ هل يشعر بأن الجميع يدفع حصته العادلة من الضرائب؟ هناك دائما فريق متحمس لهذه السياسة أو تلك، وفريق معارض. لكن لا يملك أحد إجابات علمية صادقة على تلك الأسئلة. ببساطة لا أحد يعرف ماذا تفضل الأغلبية فى أى من تلك الموضوعات. لم يأخذ أحدٌ رأى الشعب فيما يريد فى إطار الموارد العامة المتاحة فى مصر. رغم أن تلك الموارد تأتى من جيوبه «الضرائب»، أو يتحمل الشعب سداد أعبائها من جيوبه (الدين العام). فى كل يوم تصرخ مئات الأمثلة عما قد يرى على أنه إهدار للموارد الشحيحة. وما يعمق الغيظ أن هذا الإهدار يترافق دائما مع شكوى المسئولين من نقص شديد فى تلك الموارد. فهذا مستشفى حكومى، يعانى من نقص الإبر والقطن ومواد الأشعة، ولا تعمل بعض أجهزته، لعدم وجود ميزانية لصيانتها. ولكن، فى نفس الوقت يتم تجديد مدخله، أو ينسف الرصيف المقابل له ويعاد رصفه بلا لزوم. لا تتعجل، فهذا قد لا يسمى فسادا. بل اللوم على نقص الشفافية. لنرجع إلى الوراء خطوة، حتى نفهم بشكل أفضل كيف يسير دولاب العمل فى أروقة الحكومة. لنستكمل مثال المستشفى الحكومى. تقع مصاريف الصيانة وشراء الحقن والأدوية فى «باب» من أبواب الموازنة يختلف عن ال«باب» الذى ينفق منه على تجديد المدخل أو حجرة المدير. ويمنع القانون الحالى مدير المستشفى من أن يحول الأموال الفائضة من «باب» إلى «باب»، أو تأجيل الاستفادة منها إلى العام اللاحق. كما لا توجد حاليا طريقة للمفاضلة بين إعادة بناء الرصيف المقابل للمستشفى (التابع للحي/ أو للمحافظة حسب موقع الشارع)، وبين احتياجات المستشفى (التابع لوزارة الصحة أو لوزارة التعليم العالى حسب اسم المستشفى). هذا هو الحال حين تغيب المشاركة الشعبية عن اتخاذ القرارات المتعلقة بحياة المواطنين، وهو وضع مرسوم ومهندس بفعل القوانين البالية الحالية. وهكذا تقع القرارات الهامة المتعلقة بأولويات الإنفاق الحكومى على الصحة فى محافظة ما فى يد مصالح حكومية متنافسة وأحيانا متعارضة. فهل هناك طرق أفضل لإدارة المال العام والموازنة؟. موارد قليلة ورغبات كثيرة إذا ما استغلت فئات ضيقة دورة الموازنة، وانفردت بها، كانت أداة قوية للتهميش. وبخاصة إذا ما أصبحت الموازنة العامة حدثا استبعاديا، ينفرد به أولئك الخبراء الفنيون المعنيون بعملية إعداد الموازنة، ولا يحق للناس العادية المشاركة فى إعدادها. وفى مصر، حتى الآن، تقتصر مناقشة الموازنة والسياسات المالية والضريبية على عدد محدود من بنوك الاستثمار والمتخصصين. وهو ما يجعل المنتج النهائى متحيزا بالضرورة إلى مصالح المشاركين فى إعداده. ومن هنا فإن فتح الموازنة للمشاركة من قبل المواطنين والمستفيدين من غير المتخصصين يزيد من درجة استجابتها للمطالب الاجتماعية. وكلما اتسعت دائرة المشاركة الشعبية كلما عمت الفائدة. ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (نادى الدول الغنية)، فإن المشاركة الديمقراطية فى دورة الموازنة تؤدى إلى خلق إحساس عام بالانتماء إلى الدورة والمسئولية المشتركة عما ينتج عنها. «فهى تنشر الثقة فى نواب الشعب، ويعم الاستقرار السياسى. وأخيرا فهى تردع الفساد لأنها تمنح وسائل للرقابة الشعبية فى مراحل المتابعة والتقييم». مع بداية القرن الحالى، بدأ عدد متزايد من الأدلة العلمية يتراكم على أن شفافية الموازنة هى أداة لتحسين السياسات المالية والضريبية، وبشكل أعم، لدعم النمو الاحتوائى المفيد للفقراء. الأمثلة لا تعد ولا تحصى. فى المكسيك، حين أتاحت الحكومة بيانات تفصيلية عن دعم المزارعين، اكتشف الناس أن أقلية من كبار الملاك يحصلون على معظم الدعم، وهو ما ساهم فى إعادة هيكلته بفعل ضغط جمعيات الفلاحين لصالح الأغلبية. فى جنوب إفريقيا، ساهم تحليل بيانات الموازنة مدعوما بالضغط الشعبى والقضاء فى إتاحة الموارد اللازمة لتوزيع الدواء على مصابى «فيروس الإتش آى ڤى». الأركان الخمسة هناك خمسة أركان لشفافية الموازنة، لا تستقيم بدونها، بحسب صندوق النقد. أولا: الوضوح.. على وزارة المالية أن تنشر بيانات الإنفاق العام وكيفية تمويلها بشكل واضح سهل القراءة. ثانيا: موثوق به.. أى أن البيانات يعتمد عليها لتوضيح الحالة الفعلية للاقتصاد. ثالثا: الانتظام.. أى تنشر المعلومات بشكل دؤوب ومنضبط فى المواعيد. رابعا: ذو دلالة.. أى أن كل رقم يتاح يجب أن نعرف معناه ودلالاته. خامسا: الانفتاح.. والمقصود انفتاح عملية صياغة السياسة المالية الحكومية تجاه العامة من المواطنين. فكم ركن من تلك الأركان متوافر لدينا؟. لعل فى الإجابة عن هذا السؤال بيت الداء. بالنسبة للوضوح وانتظام مواعيد ودلالات البيانات المنشورة، هناك خطوات للأمام حققتها وزارة المالية وأخرى للخلف. على سبيل المثال، هناك انتظام نسبى فى مواعيد نشر بعض البيانات، وزيادة نسبية فى كم البيانات المتاحة فى البيان المالى المقدم لنواب البرلمان. ولكن هناك فى المقابل تأخر وتضييق فى كم البيانات المتاحة للنشر فى التقرير الشهرى، الذى كان حتى وقت قريب يتيح (للمتخصصين) متابعة بعض أوجه الأداء الحكومى شهرا بشهر. أما عن دلالة البيانات، فهى ما زالت محدودة للغاية. معظم الوقت، لا تتاح سوى بيانات اقتصادية فنية، لا توضح الأولويات الفعلية للحكومة، خاصة على المستوى المحلى. على سبيل المثال، لا يستطيع المواطن المصرى أن يتابع أين ذهبت مليارات الجنيهات التى تقع مسئولية إنفاقها سنويا على بعض الوزراء وعلى رأسهم وزير المالية (دون الرجوع للبرلمان) فى شكل مخصصات «احتياطى الأجور»، لأن الحساب الختامى (الذى يوضح الإنفاق الفعلى الحكومي) لا ينشر بالشكل الذى يسمح بذلك (التقسيم الوظيفي). تبلغ ميزانية الطوارئ المخصصة للأجور الحكومية العام الحالى (20182019) نحو 12 مليار جنيه. ولكننا لن نعرف فى نهاية العام عدد من استفادوا من تلك المبالغ ولا إلى أى جهات حكومية ينتمون، بسبب نقص الشفافية. للعلم، لا يوجد مثل هذا البند (الاحتياطي/الطوارئ) فى أى من الدول ذات الحكم الرشيد. المثال التالى يوضح العلاقة بين المعلومات ذات الدلالة والمشاركة الشعبية. تقول الأسطورة إن وزارة التعليم (ضمن 22 وزارة) ترسل كل عام خطتها السنوية واحتياجاتها من المصروفات إلى وزارة المالية فى شكل موازنة برامج. وهى أسطورة لأننا كشعب لا نرى الموازنة فى هذا الشكل أبدا. ولا حتى نواب الشعب حصلوا عليها حين طالب البعض بها. ورغم وعود ومحاولات متكررة من وزارة المالية، فإنها لم تستطع قط نشر موازنة التعليم فى شكل موازنة البرامج. وهكذا لم يعرف الشعب قبل أن يبدأ تطبيق نظام التدريس عن طريق «التابلت» كم سوف تنفق الحكومة على هذا البرنامج، ومن أين تأتى بالأموال اللازمة لتمويل هذا البند، وبالتالى لم يتسن له ولا لنوابه المنتخبين مناقشة الأهمية النسبية لهذا الإنفاق على جدول أولويات الإنفاق على التعليم. وهكذا، ورغم كل مجهودات وزارة المالية، خلال الأعوام القليلة الماضية، لم تستطع الحكومة المصرية الحصول على درجة مناسبة على مؤشر الموازنة المفتوحة. فقد حصلت مصر على 41 من مائة لأنها توفر قدرا «محدودا» من المعلومات عن الموازنة. وكانت الدرجة الأقل هى فى مجال المشاركة الشعبية، حيث حصلت مصر على 11 من مائة لأنها توفر «القليل» من الفرص للمواطنين من أجل التفاعل مع الموازنة فى جميع مراحلها، وخاصة الإعداد. وهكذا غالبا ما تدور المناقشات حول «كان من الأفضل أن تفعل الحكومة كذا وكذا»، بدلا من الاستفادة من الآراء أثناء عملية إعداد الموازنة. حين تغيب الأركان الخمسة لشفافية الموازنة، يستشرى الإحساس بكل من الاستبعاد، والخطأ فى انتقاء الأولويات. وكما بضدها تتمايز الأشياء، لعل شفافية الموازنة فى أوغندا تكون مثالا ملهما. حين يشارك الشعب يحكم موسيفينى أوغندا منذ عام 1986. وذلك بعد تقاتل وحروب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين. حصلت أوغندا مع ذلك على درجة مرتفعة على مؤشر الموازنة المفتوحة، حيث توجد انتخابات محلية منتظمة، وإذاعات محلية مستقلة ومنظمات مجتمع مدنى محلى. ووفقا لدراسة نشرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قام الباحثان بخوض تجربة المواطن غير المتخصص فى محاولة لتتبع أوجه الإنفاق الحكومى. وهكذا فى دقائق أمام شاشة الكمبيوتر، يستطيع المواطن الوصول إلى موازنة مدرسة ابنه أو الوحدة الصحية المجاورة، وكل المشروعات المخططة حوله، ومتابعة فى أى مرحلة صارت. ويتسنى للمواطنين فى عدد متزايد من الدول مناقشة أولويات الموازنة قبل اعتمادها، وذلك من خلال مؤتمرات شعبية، يحضرها نواب المجلس المحلى ومسئولو المحافظة، ومن ثم تتمكن الجموع من تعديل تلك الأولويات لما فيه مصلحة الناس. وتسمى هذه الطريقة بالموازنة التشاركية. وإجمالا، حظيت الدول الإفريقية أخيرا بأكبر عدد من المبادرات التى تستهدف زيادة الإتاحة والمشاركة فى مختلف مراحل الموازنة على مستوى العالم، حيث قامت 35 مبادرة فى أكثر من 15 دولة، وفقا للبنك الدولى، فى عام 2013، فى حين لا يوجد سوى مبادرتين فقط على مستوى دول الشرق الأوسط، لم تكن من بينها مصر وقتها. إلا أن بعض الجهات الحكومية حاليا تسعى إلى تحسين مستوى الشفافية وإتاحة معلومات عن الموازنة، وقد تتعثر أحيانا تلك المحاولات، بسبب تمسك البعض بالوضع البائس القائم خوفا من التغيير. فى 2016 مثلا، كان العمل على قدم وساق فى مشروع تقوم به وزارة التخطيط يتيح الفرصة للمجتمع المدنى والمواطنين لمتابعة الإنفاق الحكومى على المستوى المحلى. حيث كانت الوزارة بصدد إصدار كود لأى أصل حكومى بحسب منطقته الجغرافية. يربط هذا الكود بين الإنفاق الحكومى المخصص للنفقات الجارية اللازمة لهذا الأصل، مع الإنفاق الاستثمارى المخصص له. ولكننا لا نعرف كمواطنين ما آل إليه هذا المشروع. وهو ما قد يكون علامة على المقاومة السياسية من البعض. فما أفضل أن تظل ستائر الظلام تحيط بالمال العام، كى يستفيد من يستفيد من الوضع الحالى. فليستمر إنشاء مبانى المدارس والمستشفيات، لأن هناك مخصصات إنفاق استثمارى توجه لها. فى حين لا يترافق معها مخصصات لتعيين المدرسين أو الأطباء، بسبب فرض حظر على زيادة مخصصات الأجور (الإنفاق الجاري)، فتبقى المبانى مهجورة، ويترافق إحساس منتشر بالهدر مع الشكوى من نقص الموارد.