فى عام 2016، وصل عدد المكتبات العامة فى مصر بدلتاها وصعيدها، ومدنها وريفها، إلى 344 مكتبة، مقارنة ب 350 مكتبة عامة فى 2015. فى الوقت نفسه بلغ إجمالى عدد المكتبات، بما يتضمن مكتبات الجامعات والمدارس والمكتبات المتخصصة، 1222 مكتبة، شهدت خلال عام 2016 نحو 5.7 مليون زيارة بين مطالعة واستعارة. تتضاءل هذه الأرقام بشدة بالمقارنة بدول كالولاياتالمتحدةوبريطانيا. فى الأولى يبلغ الإجمالى ما يقرب من 117 ألف مكتبة منها 9 آلاف مكتبة عامة تنتشر فى 16 ألف مبنى، وما يزيد عن 98 ألف مكتبة فى المدارس 81 ألف منها فى المدارس العامة. بينما وصل عدد الزيارات إلى مليار ونصف المليار شخص فى عام 2012. أما فى بريطانيا فعدد المكتبات العامة قد وصل إلى 4145 مكتبة فى 2014 من 4620 فى 2002، بينما بلغ عدد المكتبات الأكاديمية ما يصل لألف مكتبة. فى مصر هناك مكتبة عامة لكل 300 ألف مصرى، وفى الولاياتالمتحدة هناك مكتبة عامة لكل 20 ألف شخص. أهمية المكتبات العامة وفى المدارس هنا ومعنى عددها المتدنى بالنسبة لعدد السكان لا يقتصران على تحسين عادات القراءة أو التعلم ولا الحياة الثقافية بالمعنى العام وصناعة الكتب. فها هو عالم الاجتماع الأمريكى إريك كلايننبرج يخبرنا فى كتاب، يقول عنه خبراء إنه سيغير كثيرا النظرة للامساواة وللمدينة، أن انحسار المكتبة العامة كاشفة للتمييز والتفاوتات وعنصر محورى، ضمن عناصر أخرى، فى صناعة الاستقطاب فى المجتمع. كلايننبرج، وهو صاحب عدد من الكتب التى حصدت جوائز وأثارت ضجة، أحدها عن الحب المعاصر والآخر عن العيش المنفرد، يعتبر المكتبة العامة كمساحة مشتركة بين الناس مثلا رئيسيا على ما يسميه «البنية الأساسية الاجتماعية». ويعرفها كلايننبرج فى كتابه «قصور للناس» بأنها «الشروط المادية التى تحدد مستوى وتطور العلاقات بين الناس والشبكات التى تربطهم ببعضهم، أو ما يسمى رأس المال الاجتماعى». وعندما تكون البنية الأساسية الاجتماعية «متينة»، فإنها تدفع الاتصال والمساندة بين الناس والتعاون بين الأصدقاء والجيران، وعندما تنحط وتتراجع، فإنها تحجم النشاط الاجتماعى تاركة العائلات والأفراد دون أحد غير أنفسهم ليستندوا عليه. يمتد مصطلح البنية الأساسية الاجتماعية من المكتبة العامة لملاعب الأطفال فى الأحياء، للحدائق العامة، للشواطئ العامة للمدارس إلى تجربة التعلم. وتؤثر البنية الأساسية الاجتماعية بشدة على حياة الناس، بحسب الكتاب الذى يعود لموجة حارة استوائية ضربت مدينة شيكاغو، المدينة التى ينحدر منها الكاتب، فى عام 1995، كى يثبت أن تراجع البنية الأساسية الاجتماعية بسبب الخصخصة وتراجع الاستثمارات العامة وانحدار الخدمات العامة عموما، يجعل أثر التغير المناخى أعلى بكثير على الفقراء. كلما كانت البنية الأساسية الاجتماعية أفضل كلما كان أثر الكوارث المناخية أقل وتراجع التفاوت بين الناس فى تحمل نتائجه. ويشتمل الكتاب على عشرات الأمثلة تتنوع من تجارب التعلم بالمدارس للفضاءات العامة المادية بأنواعها للفضاء الالكترونى وأثره مدعومة بالصور، ليثبت بها كيف أن تراجع البنية الأساسية الاجتماعية، وهو نتيجة للامساواة الاجتماعية والتمييز الطبقى، وكيف أنه هو نفسه يعيد إنتاج الانقسام الاجتماعى ويعزز التمييز الطبقى. «لقد قام عدد صغير من الأثرياء ببناء أنظمة خاصة موازية للأمن الشخصى والسفر الجوى وحتى الكهرباء، وصار لهم مساراتهم الأسرع «فاست تراك» فى المطارات وفى الطرق وغيرها. بل إن كلايننبرج يتحدث هنا عن المدارس، ليس فقط فيما يخص صعود التعليم الخاص الحصرى والاقصائى لشرائح الأغنياء، ثم يلقى الضوء على الكيفية التى يؤثر بها التصميم المعمارى للمؤسسات الدراسية على عملية التعلم والتواصل بين الطلبة وبعضهم وبين أولياء الأمور وبعضهم وبين المجتمع والمدرسة. « تصميم المساحات فى الحرم الجامعى: قاعات المحاضرات والمراكز البحثية والمدن الجامعية هى أكثر العناصر المرئية من البنية الأساسية الاجتماعية للتعليم لكن الحواف والحدود مهمة أيضا لأنها تشكل إذا ما كان الطلبة سوف يشتبكون ويتعلمون الثقافة العامة ويتفاعلون مع الناس الذين لا يشبهونهم». يسير التيار عكس ذلك الاتجاه فى العالم وفى مصر خصوصا، حيث تحرس شركات خاصة بوابات الحرم الجامعى وتأخذ المؤسسات التعليمية فخارها من مبانيها المحصنة فى التجمع الخامس. والنتيجة ظاهرة فى كل مكان: الأغلبية الكاسحة تتحمل أنظمة تتداعى من الاستخدام الزائد ومن نقص الاستثمارات». ويصرخ الكتاب: «لا شىء من ذلك قابل للاستمرار». المصيبة أن الأمر لا يتوقف عند ذلك. بل إن خصخصة المساحات العامة وعمليات الإحلال العمرانى الطبقى تواصل هجماتها على ما تبقى من بنية أساسية اجتماعية. ففى مصر مثلا، الحق فى المساحات العامة غير منصوص عليه صراحة الدستور، ويغيب عن السياسات العامة بوضوح. بل تنحو استثمارات الدولة ومشاريعها القومية فى اتجاه المجتمعات المسوَرة الحصرية وإغلاق الشواطئ العامة على من يستطيع دفع تكاليف الدخول، وذلك أساسا فى سياق وضع حصة المصريين فيه من الفضاء العام محدودة بكل المعايير. على سبيل المثال، ووفقا لمدونة تضامن المعنية بالحق فى المدينة والحقوق العمرانية فى مصر، فإن «المساحات الخضراء العامة حيث يتمكن الأشخاص من التمتع بالمدينة بحرية وبشكل مريح محدودة للغاية فى مصر» وتبلغ حصة القاهريين من المساحات الخضراء 0.8 متر مربع للفرد (متر مربع / للفرد). أما سكان الإسكندرية فلديهم أقل من هذا – 0.4 متر مربع للفرد فقط مقارنة ب 12 مترا مربعا فى دبى و14.5 متر مربع للفرد فى تونس، و55.5 مترا مربعا للفرد فى الدار البيضاء. وهذا بالمقارنة مع المعدل العالمى البالغ 4 أمتار مربعة للفرد. «كما أن المساحات الخضراء المحدودة المتاحة فى المدينة أبعد ما تكون عن المساواة فى التوزيع. سكان المناطق ذات الدخل المرتفع فى القاهرة لديهم 4 – 7 متر مربع/ الفرد من المساحات الخضراء للفرد الواحد، وهو ما يقرب من 70 ضعف المساحات الخضراء فى أكثر المناطق فقرا»، بحسب المدونة. وتحتكر الدولة القرار فى الموضوع، مستبعدة النقاش الديمقراطى مع الأطراف المعنية، كما يقول كلايننبرج. «عادة ما يزعم المسئولون السياسيون أن مشاريع البنية الأساسية فنية بما يتجاوز قدرة المواطنين على الفهم، ناهيك عن مناقشة جدواها ديمقراطيا. ويطلبون منا أن نثق فى المهندسين والخبراء كى يتولوا الأمر، وهو ما يعنى فى النهاية ترك السلطة تتدفق من أعلى لأسفل. لكن لا يجب أن يكون لأى رئيس ولا حكومة السلطة فى اتخاذ قرارات منفردة حول إعادة بناء تلك الأنظمة الحساسة التى نعيش فيها، ويخبرنا التاريخ أنه عندما يكون ذلك هو الحال، فإن الناس نادرا ما يحصلون على ما يريدون»، كما يقول الكتاب. يحذر عالم الاجتماع الأمريكى من أن الطبقة الأعلى فى الولاياتالمتحدة قد تخلت فعليا عن المشروع الجماعى، وبدأت فى تشكيل مجتمع منفصل مبنى على العزلة المكانية والاقتصادية والتعليمية والثقافية. «لقد تعهد الرئيس الأمريكى بإعادة بناء البنية الأساسية، ولم يترك مجالا للسؤال حول خطوته الأولى: حائط. ولا يوجد أسهل من حائط فى التصميم والتشييد. لكنه رمز وعنصر دافع فى الوقت نفسه للانقسامية التى تضعفنا، بالإضافة إلى أنه، وكما يقول العديد من المسئولين السياسيين المعنيين بالهجرة عبر الحدود، لن يكون حتى فاعلا فى تقليص الهجرة». فالحوائط لا تنفع. إريك كلايننبرج، قصور للناس كيف يمكن للبنية الأساسية الاجتماعية أن تساعد فى مواجهة اللامساواة والاستقطاب وانحدار الحياة المدينية، نيويورك، الناشر: كراون، سبتمبر 2018، 288 صفحة. Eric Klinenberg، Palaces for the People، How Social Infrastructure Can Help Fight Inequality، Polarization، and the Decline of Civic Life، New York، Crown، September 2018، 288 pages, كاتب مصرى وباحث فى الشئون الاقتصادية