على الرغم من المحاولات الكثيرة للعديد من شعراء العامية المصرية المتميزين لكتابة المسحراتى، فإن مسحراتى فؤاد حداد يظل شامخا بالريادة أولا، وبالروح والنَفَس الشعرى ثانيا. فقد ابتدع فؤاد حداد قالبا شعريا خاصا به لكتابة هذا اللون من الفن يتكون من خمسة مقاطع، يبدأ المقطع الأول بمذهب ثابت فى جميع النصوص، وفى ذاكرة الناس أيضا، بعد أن نفذ من آذانهم إلى قلوبهم بلحن وأداء الشيخ سيد مكاوى، وهو يقول: اصحى يا نايم وحد الدايم وقول نويت بكره إن حييت الشهر صايم والفجر قايم اصحى يا نايم وحِّد الرزاق رمضان كريم وبعد هذا المذهب ينتقل الشاعر فى المقطع الثانى للموضوع الذى يناقشه فى القصيدة، وهو لا يلتزم بنوعية معينة من الموضوعات الخاصة برمضان، لكنه دائما ما يتمكن بعبقريته الشعرية من الربط بين القضية التى يناقشها والشهر الكريم. ثم يختتم الشاعر هذا الجزء الرئيسى المتغير من النص بالمقطع الثالث، وهو مقطع ثابت يتكرر فى كل نص، ويمثل جسرا يعبر عليه الشاعر من المقطع الثانى إلى الرابع، حيث يقول: المشى طاب لى والدق على طبلى ناس كانوا قبلى قالوا فى الأمثال: «الرجل تدب مطرح ما تحب» وانا صنعتى مسحراتى فى البلد جوال حبيت ودبيت كما العاشق ليالى طوال وكل شبر وحته من بلدى حته من كبدى حته من موال وهنا يأتى المقطع الرابع المتغير فى كل نص، وإن كان يلتزم فيه الشاعر بخاصيتين بنائيتين: الأولى فنية تتمثل فى كتابته بطريقة الموال، والأخرى موضوعية وتتمثل فى أن هذا الموال يسجل دائما تعليق الشاعر بصوته المباشر على الموضوع الرئيسى الذى تمت مناقشته فى المقطع الثانى، وذلك قبل الانتقال للمقطع الخامس والأخير، وهو مقطع ثابت ومتكرر أيضا، يختتم به الشاعر كافة تسحيراته قائلا: اصحى يا نايم وحد الدايم السعى للصوم خير من النوم دى ليالى سمحه نجومها سبحه اصحى يا نايم يا نايم اصحى وحِّد الرزاق وإذا كانت عبقرية فؤاد حداد الشعرية عموما تتميز بالتحكم المذهل فى التداعى الحر للأصوات والأفكار، بحيث يبدو هذا التداعى المنطقى البسيط لديه مدهشا وأخاذا على المستويين الإيقاعى والدلالى، وكأنه كشف جديد لم يرد على خاطر بشر، بل هو كذلك بالفعل؛ فإن قصائد المسحراتى خصوصا تقدم نموذجا دالا لهذه الخاصية المتفردة، ويتضح هذا على سبيل المثال فى النص الذى اخترت قراءته معكم اليوم من نصوص المسحراتى، وهو نص «المبعوثين» حيث عجزت تماما عن التوقف عند أى نقطة داخل المقطع الثانى الرئيسى للتعليق، لأن تيار التداعى الإيقاعى والمعنوى الجارف كان أقوى من كل محاولات التوقف، ولهذا ليس أمامنا سوى أن نقرأ المقطع كاملا أولا، حيث يقول: مسحراتى منقراتى. أنا باسحَّر المبعوثين أولاد يارب فى ألمانيا غرب. وألمانيا شرق لاجل أن يعودوا . متأسسين يسلم لى عوده. الواد أمين بدأ الرسالة. ب «نستعين» وثم قال. حَبْلِى متين أخبارى سارَّه أنا خدت ذَرَّه ونظام مَجَرَّه ومهندسين وأنا باذاكر طول عمرى فاكر وطن ودين فى المغربيه تتمد بيه إيدى اليمين على طبقنا لولا فراقنا أنا مش حزين بافطر معاكم واسمع دعاكم آمين آمين ما اشربش إلا الماء.. وإلا فى قزاز ياسين وختام كلامى أبعث سلامى للأجمعين نحن نُلَقَّن العلم حقَّا وكويسين إن الشاعر يناقش فى هذه التسحيرة قضية المحافظة على الهوية حتى عندما ترغمنا الحياة على العيش فى بلاد الغرب طلبا للعلم، فالخطاب الوارد من الطالب المبعوث أمين يؤكد تمسكه بالصوم فى شهر رمضان، بل يؤكد حرصه على الالتزام بتعاليم دينه الحنيف كافة، كما يؤكد إخلاصه لوطنه وتشجيعه للصناعة المصرية من خلال الإشارة إلى شربه للماء فى أكواب مصنوعة بأموال الرأسمالية الوطنية فى مصانع ياسين للزجاج. وقد ختم الشاعر المقطع الرئيسى فى تسحيرته العامية بجملة مكتوبة بالفصحى وهى «نحن نلقن . العلم حقا» مما يتناسب مع لغة العلم من جهة، ولغة الخطابات التى تنتمى إلى دائرة الكتابية وليس لدائرة الشفاهية من جهة أخرى، هذا قبل أن يختم المقطع بكلمة «وكويسين» لتكتمل الدائرة ويتم إدماج الجملة الفصيحة فى سياق العامية مرة أخرى داخل نسيج واحد وكأن شيئا لم يكن. ثم يأتى بعد الفاصل المتكرر دور الموال المُعِّلِق على المقطع الرئيسى السابق، والذى يقول فيه: من بحر يوسف سلام يوصل لبحر السين لولاد رفاعه: محمد والسعيد وحسين ولكل مبعوث مناضل بالصلا ع الزين سيب اللى قاعد يفاضل بين الأدب والعلم درس الوطن يا مهم أفضل من الدرسين إن الخطاب هذه المرة يأخذ اتجاها مرتدا من الشاعر فى مصر ليس إلى المبعوث أمين فى ألمانيا فقط، بل إلى كل المبعوثين فى جميع أنحاء الأرض، حيث يذكرهم بجدهم رفاعة الطهطاوى أحد صناع النهضة المؤسسة على دعائم غربية دون فَقْد الهوية، وهو يؤكد لهم أن من يجاهد فى سبيل تحصيل المواد المتعلقة بالقسم العلمى يعادل من يجاهد فى سبيل تحصيل المواد المتعلقة بالقسم الأدبى، وأن المفاضلة الحقيقية بينهما تكمن فى مدى تعلم كل منهم للدرس الأكثر أهمية، وهو درس الوطن. رحم الله شاعرنا الكبير فؤاد حداد الذى علمنا الدرسين: درس الوطن ودرس الشعر.