يسوع في قيصريّة فيلبّس، وهي مدينة بناها "هيرودوس فيلبس" سنة ( 2 أو 3 ق.م) على اسم " أغسطس قيصر"، وهي بانياس الحاليّة قرب ينابيع الأردن. في هذه المدينة تعمّد يسوع أن يسأل تلاميذه: "من هو ابن الإنسان برأي النّاس؟ ". والجواب كان أنّه شخصيّة من الماضي قد تقمّصت ( يوحنا المعمدان، إيليّا، إرميا، أو أحد الأنبياء). والتّقمّص معناه أنّ الإنسان يدخل التّاريخ مرّة أخرى ولكن بشخص آخر. لعلّ يسوع استاء بعض الشّيء من هذه الرّدود وبطريقة لطيفة سأل التّلاميذ: " وأنتم، من تقولون أنّي أنا؟" ( متى 15:16). وهذا السّؤال يطرحه يسوع اليوم على كلّ واحد منّا، وبإمكاننا جميعاً أن نجيب: " أنت المسيح ابن الله الحيّ "، ولكن هذا غير كافٍ . ويجيب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحيّ". ( متى 16:16). ( أنت المسيح )، أي أنّك أنت كلّ ما قيل عنك من قبل، وأنت المسيح الآتي الّذي تمّ فيك التّاريخ الماضي وأنت ابن الله الحيّ. وهنا يسوع يهنّئ بطرس على إيمانه الّذي ليس من لحمه ودمه بل من الآب. فالإيمان ليس من الإنسان وإنّما منبعه الله. هو يزرعه فينا، لأنّه يريد أن يبني علاقة معنا. وهو المبادر الأوّل وليس نحن. " نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أوّلاً. ( 1 يوحنا 19:4). مخطئون من يعتقدون أنّ معرفة الله تأتي بالعلم والعقل فقط. العلم وحده لا يكفي، نحن بحاجة إلى النّور الّذي يفيض من أبينا السّماوي وينير بصائرنا، كما أنّنا نحتاج إلى محبّته الّتي تنسكب في قلوبنا، وبتفاعلنا معها ندخل في سرّ الله. والله زرع الإيمان في كلّ النّاس ولا أحد يعرف يسوع المسيح إلّا باختبار الإيمان، أي باختبار العلاقة الحميميّة معه. فكيف نعرف شخصاً إن لم نبنِ علاقة معه؟ الإيمان ليس كالمعرفة، فالمعرفة المعلوماتيّة والفكريّة أمر سهل، أمّا الإيمان، فهو الدّخول في علاقة مع يسوع المسيح، والسّير معه بخطىً ثابتة واثقين أنّه معنا في كلّ الظّروف. بل أكثر من ذلك، هو أن نترجم هذا الإيمان بأعمالٍ تعكس صورته، صورة المسيح. لذلك أوصاهم يسوع ألّا يخبروا أحداً أنّه المسيح ( متى 20:16). فالمسيح لا يريد زعامة أو منصباً، كما أنّه لا يريد جمع أعداد من النّاس حواليه، وإنّما يريد أن يلتقي بكلّ منّا باختبار شخصيّ ومعرفة شخصيّة حميميّة. يريدنا أن نحبّه لأنّنا عرفناه وليس لأنّنا انبهرنا بمعجزة أو حدث. وبسبب هذا الإيمان، تبدّل اسم " سمعان" وفاض الرّبّ عليه بتدبيره، " أنت الصّخرة وعلى هذه الصّخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها". ( متى 18:16). في قيصريّة فيلبس يسوع أعلن حقيقتين: الأولى، أنّ القيصريّة الحقيقيّة هي الكنيسة، وكشف أنّ بطرس هو المكلّف بحماية الإيمان، وممارسة العدالة من خلال الإيمان وإدارة الكنيسة على ضوء هذا الإيمان. كلّ ممالك الأرض ينتمي إليها النّاس بالأمر الواقع، واقع الاجتياحات والحروب والتّقسيمات الجّغرافيّة، أمّا مملكة المسيح ننتمي إليها فقط بالإيمان والحبّ. في هذه المملكة نعيش مع الرّبّ ونختبره ونعرفه، فنعطي جواب الإيمان: " أنت هو المسيح ابن الله الحيّ ". في كلّ مرّة نتجرّع كأساً مريراً في هذا العالم الفاني، ونواجه الضّيق والصّعوبات بقلب منفتح على المحبّة الإلهيّة، وبإرادة قويّة وثقة ثابتة بكلام السّيّد، وفي كلّ مرّة نقرأ أحداث حياتنا على ضوء يسوع المسيح، مدركين أنّ المسيح القائم من الموت، يرعى خطواتنا وينير سبلنا، ولا يتخلّى عنّا، فنحن بذلك نعلن بثقة أنّ المسيح هو ابن الله الحيّ، وأنّه السّيّد المطلق القادر على تحويل التّاريح وتوجيهه. يقول السّيّد أنّ أبواب الجحيم لن تقوى علينا، ونحن نصدّقه. وعلى الرغم من كلّ ما يدور حولنا من انتهاك للكرامة الإنسانيّة، وتهديد للحياة الإنسانيّة، وقمع فكريّ وروحيّ، واضطهاد، علينا أن نثق بالمسيح الحيّ، ونقتحم أبواب الجحيم، ولا تقوى علينا.