د. يسرا محمد سلامة اشتهرت مصر في فترة الأربعينات والخمسينات، وحتى الستينيات، بتقديمِ جميلاتٍ للسينما العربية، تربعن على عرش الفن العربي لسنواتٍ عديدة، وكان للشاشة الفضية ذات اللونين الأبيض والأسود طابع خاص؛ بسبب تألق هؤلاء النجمات اللائي برعنَ في أدوارهن، وكان لأدائهن المميز دور مهم في عرض صورة مُبهرة للفن المصري حتى يومنا هذا. هي خليط رائع من كل نجمات الزمن الجميل، إلا أنها تفوقت عليهن جميعًا بما امتلكته من موهبةٍ فاقت كل التوقعات، وبما اختصها بها وحدها المولى عزّ وجل من حضور طاغي، وشخصية خلابة، ووجه ملائكي، وأخيرًا وليس آخرًا صوت لا تُضاهيها فيه أي مطربة أخرى، فقد كان لصوتها طابع خاص جدًا، وكأنه علامة مُسجلة تفردت بها وحدها دون غيرها من مطربات عصرها، فقدمت في أعمالها التمثيلية روائع طربية تَغنّى بها القاصي والداني على مر السنين، هذا بالإضافة إلى أعمالها المنفردة من الأغنيات الجميلة التي شدت بها لمصر، وأغنيات أخرى حملت الطابع الرومانسي وكانت لها أصداء واسعة سحرت عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه. إنها الموهوبة حقًا، جميلة الجميلات دلوعة السينما المصرية المبدعة شادية، منذ أنْ اكتشفها المخرج الكبير أحمد بدرخان وقدمها في فيلم "العقل في أجازة"، وهي تشبثت بهذه الفرصة الذهبية ولم تتركها تفلت منها أبدًا، فتميزت بالعديد من الأعمال التي اشتهرت بها مع العديد من كبار النجوم، فكان للكيميا التي ظهرت على الشاشة بينها وبينهم، ميزة إضافية حققت لأعمالها معهم نجاحًا عظيمًا، فتعاملت مع محمد فوزي، وكمال الشناوي، عماد حمدي، وصلاح ذو الفقار. قدمت شهادة ميلادها كممثلة فذة، في عملٍ يُعد واحدًا من أفضل أعمال السينما المصرية على مر الأزمان "المرأة المجهولة"، والمفاجأة أنّ عمرها لم يتعدّ الخمسة وعشرون عامًا حين قدمت دور الأم في هذا الفيلم في مراحل عمرية مختلفة، إلى أن انتهى بها العمل أمًا للفنان شكري سرحان، لم نشعر مُطلقًا في أي لحظة ونحن نشاهدها أنها صغيرة في السن، بل كانت كبيرة قيمة وعمرًا، وأجادت أكثر بغنائها فيه لأغنياتٍ نظل نُرددها حتى اليوم، مثل الأغنية الأشهر "سيد الحبايب". ثم جاءت أعمالها مع الفنان صلاح ذو الفقار، والتي أكدت على قيمتها الفنية الكبيرة فقدمت معه علامات أخرى، "مراتي مدير عام"، "عفريت مراتي"، وأيقونة السينما المصرية "أغلى من حياتي"، أعمال كانت بداية الصِقل الفني ل شادية، فكتبت لها شهادة الجودة التي استحقت بها أنْ تكون بطلة الأعمال الروائية، لأديب نوبل نجيب محفوظ، من سواها لديها القدرة على تجسيد شخصيات أعماله "زقاق المدق"، "اللص والكلاب"، "الطريق"، و"ميرامار"، ولم تتوقف عند تلك الأعمال الأدبية الكبيرة، فجسدت شخصيات لا تقل في روعتها شيئًا عن بطلات محفوظ، فكانت التحفتين الفنيتين "شئ من الخوف" للقدير ثروت أباظة في دور "فؤادة"، و"نحن لا نزرع الشوك" للراحل يوسف السباعي. وكما يقولون "ختامها مسك"، فقد أنهت مسيرتها الفنية بعملين أقل ما يمكن وصفهما أنهما رائعين، فاختتمت مشوارها السينمائي بالعمل الجميل "لا تسألني من أنا" الذي كان العمل رقم 118 في مسيرتها السينمائية - وكانت المفاجأة الكبرى – عمل مسرحي واحد، لكنه بكل الأعمال المسرحية التي قُدمت من قبل، نعم كان عملها الأوحد، إلا أنك تشعر معه أنك أمام قامة مسرحية لا مثيل لها، عملاقة تمرست على الوقوف على خشبة المسرح لسنواتٍ عديدة، ويبدو أنّ تقديمها للحفلات الغنائية قد ساعدها كثيرًا على إزالة رهبة المسرح لديها، وعدم إشعارنا بأي نقص في أدائها، فكانت "ريا وسكينة" رائعة العظيم الراحل "حسين كمال"، في هذا العمل أنت أمام طاقة مشتعلة تمثيلية لا يمكن إيقافها، وصوت يحمل في طياته طرب لم تسمعه من قبل في أغنياتٍ قد تبدو للوهلة الأولى أنها خفيفة، إلا أنها من فرط السلاسة التي تغنتها شادية تشعر معها، وكأنها أغنيات طربية كبيرة تحتاج لمطرية من العيار الثقيل، إذن كان لابد أنّ الاختيار يقع على شادية ولا أحدٍ غيرها. قولوا لعين الشمس، آه يا اسمراني اللون، يا حبيبتي يا مصر، إن راح منك يا عين، يا دبلة الخطوبة، مصر اليوم في عيد، ادخلوها آمنين، خد بإيدي، كانت أشهر أغنياتها ولازلنا حتى اليوم نرددها، ولا يمكننا أنْ ننسى على الإطلاق "معبودة الجماهير"، "نص ساعة جواز"، "كرامة زوجتي"، "أضواء المدينة"، "لوعة الحب"، "لحن الوفاء"، "بائعة الخبز"، "التلميذة"، "إنت حبيبي"، وغيرها من الأعمال التي تُعد علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية. رحلت عن عالمنا بجسدها، إلا أنّ فنها باقٍ معنا، ستتوارثه أجيال بعد أجيال، فالعظماء لا يرحلون يبقون دومًا معنا، وبرغم اعتزالها الفن منذ وقت طويل، إلا أنها لم تكن يومًا مُعتزلة، فلا تخلو محطة تليفزيونية من عملٍ لها يوميًا، اعتدنا وجودها معنا، ورحيلها لن يؤثر على اعتيادنا شيئًا، هي في القلب وفي وجدان الملايين فنانة من الزمن الجميل، لن يجود الفن العربي بمثلها أبدا. رحمك الله أيتها الراقية، وأسكنك فسيح جناته، وألهمك ذويكِ الصبر والسلوان على فقدك، ودُمتِ في قلوب عشاقك باقية بشدوك وعطاؤك الفني.