لو بعثت رسالة إلى طه حسين اليوم سأقول له فيها: إن كل ما سميناه عصر التنوير فى العشرينيات والثلاثينيات قد أصبح اليوم عصر التعتيم، فالأجيال الجديدة لا تعرف شيئا عما سبق من جهود فى سبيل فتح الأذهان وحرية الأفكار .. وأن الأمية لم تعد فقط فى الحروف الهجائية بل أضيفت إليها أمية فى العقلية .. بهذه الكلمات اختتم الكاتب الكبير الراحل توفيق الحكيم مشوار عمره مع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين . كانت تلك هى كلمات النعى والرثاء التى عبر بها الحكيم عن شعوره تجاه طه حسين بعد عشرة عمر دامت لأكثر من 50 عاما، كانت العلاقة فيما بينهما أشبه بعلاقة القط والفأر أحيانا وعلاقة الوفاء والصداقة فى أحيان أخرى، لكن هذه العلاقة بلاشك تكشف عن جوانب شديدة الطرافة.. تلك هى العلاقة التى سعى الكاتب إبراهيم عبد العزيز للكشف عنها فى كتابه الصادر عبر طبعات عديدة بعنوان "أيام العمر.. رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم" ..
فى البداية يشير هذا الكتاب الطريف الذى وقع بين أيدينا بالصدفة إلى أن طه حسين فقد بصره تماما على يد حلاق القرية، لكن الحلاق نفسه هو الذى أنقذ العين اليمنى لتوفيق الحكيم التى كانت مهددة بفقدان البصر، وإذا كان أهل طه حسين قد أهملوا الطبيب وأطلقوا اليد للحلاق فى علاج عينى إبنهم، فإن أهل الحكيم قد ذهبوا بإبنهم إلى الطبيب الذى يئس من علاج الرمد الصديدى فنصحهم بالاعتماد على الحلاق! ونجد أنه عندما تعرض توفيق الحكيم لهجوم كبير على صفحات جريدة الجمهورية فى الخمسينات وادعى أحد النقاد بأن روايته "حمار الحكيم" سرق فكرتها من الأديب الإسباني "خمينيز" الفائز بجائزة نوبل في الأدب سنة 1956، حيث أن له كتاب جميل جداً اسمه "بلاتيرو وأنا" وبلاتيرو هو الحمار بالإسبانية، فقد التزم طه حسين الصمت ولم يتدخل ليدافع عن صديقه توفيق الحكيم، وهو ما حدث أيضا عندما اتهم النقاد طه حسين بأن كتابه "مع المتنبى" كان منقولا من كتاب آخر يحمل اسما قريبا لمستشرق اسمه "بلاشير"، وذكر الحكيم أن هذا الاتهام كان سببا فى أن اليونسكو لم يدع طه حسين إلى حفل أقيم فى باريس ولم يخبر الحكيم طه حسين بهذا السبب حتى لا يجرح مشاعره!
ولم يكتف الحكيم بمنافسة طه حسين أدبيا وإنما سعى ليثبت لقراءه أنه هو من دافع عن مجانية التعليم وليس طه حسين، ورأى الحكيم أن شعار طه حسين "التعليم كالماء والهواء" ليس له قيمة، وقال عن ذلك " لم أتحمس لذلك الشعار إذ وجدته مفتقرا إلى الدقة والعمق، فالماء والهواء يشترك فيهما الحيوان مع الإنسان ولذلك فضلت عليه شعارا آخر وهو " الطعام لكل فم وعقل" لأنه يميز الإنسان عن الحيوان فالطعام للإنسان مختلف عن الطعام للحيوان، وإذا كان المقصود بالتعليم كالماء والهواء هو محو الأمية عند الجميع فما قيمة محو الأمية الأبجدية مع بقاء الأمية العقلية.. لقد انتشر التعليم الذى كالماء والهواء بالمجانية ولم يتغير شيء فى عقلية الأمة!!
ورغم هذا الصراع الخفى بين طه حسين وتوفيق الحكيم الذى كان يتخفى خلف صداقة وعشرة عمر طويلة، إلا أن كلمات الرثاء التى كتبها الحكيم فى عميد الأدب العربى كانت مؤثرة وأكثر من رائعة حيث قال " فارق الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر .. فجيعة كبرى من فجيعة الأدب العربى فى عميده العظيم، وفجيعتى أكبر من أخ قديم كريم، وإذا كان اللسان العربى منذ نطق أدبا سوف ينطق إلى آخر الدهر باسم طه حسين وفضله على لغة العرب، فإن لسان القلب لن يكف عن ترديد ذكراه ما بقيت على قيد الحياة .. فقد جمعتنا أجمل أيام العمر كما جمعنا الفكر على صفحات كتاب".