انتظام امتحانات الصفين الأول والثاني الإعدادي بشمال سيناء    وكيل «أوقاف الإسكندرية» يشدد على الأئمة بعدم الدعوة لجمع التبرعات تحت أي مسمى    وزيرة الهجرة تلتقي رئيسة الجالية المصرية بأيرلندا الشمالية    رئيس جامعة جنوب الوادي يترأس مجلس التحول الرقمي    انخفاض أسعار الفراخ البيضاء اليوم الأربعاء 8-5-2024    أسعار الذهب تشهد ارتفاع طفيف وسط عدم اليقين بشأن مسار الفائدة الأمريكية    استقرار أسعار صرف الدولار مقابل الجنيه المصري .. وتراجع «اليورو» و«الاسترليني»    «الكهرباء» تبدأ من اليوم تعديل مواعيد الانقطاعات بسبب الامتحانات    توصيل المياه ل100 أسرة من الأولى بالرعاية في قرى ومراكز الشرقية مجانا    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تقصف منزلا في محيط مسجد الاستقامة بحي الجنينة    إدانة مصر للعملية العسكرية الإسرائيلية على رفح تتصدر اهتمامات صحف القاهرة    «القاهرة الإخبارية»: إطلاق نار من زوارق الاحتلال الإسرائيلي باتجاه رفح الفلسطينية    عودة الثنائي الناري| تشكيل بايرن ميونخ المتوقع أمام الريال بدوري الأبطال    المصري البورسعيدي: رابطة الأندية أبلغتنا بأحقيتنا في المشاركة بالكونفدرالية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب بالجملة من الفوز على الاتحاد السكندري    متى عيد الاضحى 2024 العد التنازلي.. وحكم الوقوف على جبل عرفة    «التعليم» تحقق في مزاعم تداول امتحان «العربية» للصف الأول الثانوي عبر تليجرام    السيطرة على حريق بمخزن مواد بترولية بالغردقة    انقلاب سيارة «تريلا» محملة بالردة على الطريق الإقليمي بالمنوفية    تتخلص من ابنها في نهر مليء بالتماسيح.. اعرف التفاصيل    غلق مسطح كوبري جيهان السادات.. تعرف على خريطة التحويلات المرورية في مدينة نصر    يسحل زوجته على الأسفلت بعد محاولة فاشلة لاختطافها    برج العذراء اليوم الأربعاء.. ماذا يخبئ شهر مايو لملك الأبراج الترابية 2024؟    في ذكرى وفاته.. صور نادرة لفارس السينما المصرية أحمد مظهر    القتل.. تقرُّبًا إلى الله    "المحظورات في الحج".. دليل لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج 2024    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    هيئة الدواء تقدم 12 نصيحة لمرضى الربو    هل أدوية العلاج النفسي آمنة وفعالة؟.. الأمانة العامة للصحة النفسية تُجيب    انطلاق القافلة الطبية المجانية بمنطقة وادي ماجد بمرسى مطروح.. لمدة يومين    يطالبون بصفقة رهائن|متظاهرون إسرائيليون يغلقون أهم الطرق في تل أبيب قبل وصول بيرنز    إفلاس فرع شركة فيسكر لصناعة السيارات الكهربائية في النمسا    يوم مفتوح بثقافة حاجر العديسات بالأقصر    اليوم.. الليلة الختامية لمولد القطب الصوفي أبو الحسن الشاذلي    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    ياسمين عبد العزيز: فترة مرضي جعلتني أتقرب إلى الله    حسن الرداد: مبعرفش اتخانق مع إيمي.. ردودها كوميدية    6 مقالب .. ملخص تصريحات ياسمين عبدالعزيز في الجزء الثاني من حلقة إسعاد يونس    مقالب بطفاية الحريق.. ياسمين عبدالعزيز تكشف موقف لها مع أحمد السقا في كواليس مسرحة «كده اوكيه» (فيديو)    الخارجية: توقيت تصعيد الجانب الإسرائيلي الأحداث في رفح الفلسطينية خطير للغاية    سحب لقاح أسترازينيكا المضاد لكوفيد- 19 من جميع أنحاء العالم    عاجل.. أول رد من صالح جمعة على إيقافه 6 أشهر    عزت إبراهيم: تصفية الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة عملية مخطط لها    القاهرة الإخبارية: تعرض رجل أعمال كندي يقيم بالبلاد لحادث إطلاق نار في الإسكندرية    مفيد شهاب: ما قامت به إسرائيل يخالف اتفاقية السلام وتهديد غير مباشر باستخدام القوة    مدرب نهضة بركان: جمهور الزمالك "مرعب".. وسعيد لغياب شيكابالا    المتحدث الرسمي للزمالك: مفأجات كارثية في ملف بوطيب.. ونستعد بقوة لنهضة بركان    رئيس البورصة السابق: الاستثمار الأجنبي المباشر يتعلق بتنفيذ مشروعات في مصر    تعليق ناري من شوبير بعد زيادة أعداد الجماهير لحضور المباريات المحلية والإفريقية    مغامرة مجنونة.. ضياء رشوان: إسرائيل لن تكون حمقاء لإضاعة 46 سنة سلام مع مصر    الداخلية تصدر بيانا بشأن مقتل أجنبي في الإسكندرية    رئيس جامعة الإسكندرية يشهد الندوة التثقيفية عن الأمن القومي    موقع «نيوز لوك» يسلط الضوء على دور إبراهيم العرجاني وأبناء سيناء في دحر الإرهاب    فوز توجيه الصحافة بقنا بالمركز الرابع جمهورياً في "معرض صحف التربية الخاصة"    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    اليوم.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماما أسماء.. وابنها توفيق الحكيم
نشر في محيط يوم 28 - 03 - 2015

عمره بالعمر ما ذكر اسمها مكتفياً بقوله إنها الجندى المجهول في حياته.. السيدة أسماء البسطامى أم توفيق الحكيم، والبطلة الحقيقية في روايته الخالدة «عودة الروح» التي نسج من وحيها شخصية بنت السلطان.
الأم العظيمة التى كان الحكيم ابنها يجثو على ركبتيه أمامها ليُقبل كفيها ويمسح بهما على وجهه مستبركًا فتحتضن الرأس التي أنجبت بدورها الحِكمة والفلسفة والأدب.. ومهما صنّف النقاد الحكيم، وتمعنوا فى صفحات سيرته، ونفذوا بين خلايا سطوره، واستقطروا رحيق فلسفته، وحلقوا مع «عصفور من الشرق»، واكشتفوا مهارة تسديده ل«رصاصة في القلب»، وتفهرسوا فى «يوميات نائب في الأرياف»، وأعلنوا يقظة «أهل الكهف»، واقترحوا حلولا ل«السلطان الحائر»، ونادوا «يا طالع الشجرة» وصرخوا معه «الطعام لكل فم» ومشوا فوق جسور المعانى في أشعاره بالفرنسية، وتعجبوا من أن أعماله الخالدة لم تشفع له عند مؤسسة نوبل ليفوز حكيم مصر بما فاز به أدباء دونه فى القيّمة والوزن.. كل ما عرف الناس والأصدقاء والنقاد عنه فأمه أسماء عرفت أكثر وأكثر وأصدق منذ سكن رحمها إلى أن سكن بعيدًا عنها ببلاد وجبال وبحور ليزورها كلما طالت غيبته ليجد غرفته مجهزة لامعة فى انتظاره، وغياره النظيف مكويًا فوق الفراش الحاضن، وعلى الشماعة الروب المنزلى القطيفة المقلم، وفوق رف مرآة الحمام فرشاة الحلاقة وأمواس بشوكها داخل أغلفتها، وزجاجة الكولونيا الثلاث خمسات بغلاف الفابريكة، وطاقم البشاكير الكنارى اللون الذى يحبه منذ طفولته، ومقعد الشرفة الهزاز فى موضعه المعهود في الركن القصى يطل من الدور الثانى على الحديقة الغنّاء فى عزبة الحكيم البالغ مساحتها 155 فدانا، والواقعة على مصرف «أبودياب» بقرية «أبوالسعود» بدمنهور.. و..دائماً يقبع «ركس» كلب الحكيم أمام البوابة في انتظار أوبة الغائب للقفز من حوله وهز ذيله ترحيباً بصاحبه..
في مايو 1960 سألوا الست «أسماء» عن آخر زيارة للابن قالت: لم يحضر منذ عام رغم أن السيدة زوجته أرسلت لى خطابا وصلنى قبل شم النسيم بثلاثة أيام قالت فيه إن توفيق سيأتى ولابد ليشم النسيم فى العزبة، وسوف تصحبه مع الأولاد.. طرت من الفرحة وانتظرت لآخذهم فى حضنى فى شم النسيم، واشتريت خروفين لذبحهما على حسهم، وفات اليوم ساعة حديد تجر ساعة أسمنت من طلعة الشمس لآخر النهار وأنا بطولى واقفة أطل على الطريق من أوله من هناك، ولا حس ولا خبر، وقلت لروحى الغايب حجته معاه، ومر النسيم لم يشمه الأنجال ولا الأحفاد، ولا عينى شافت توفيق ولا شقيقه زهير، وسمعت بعدها إن عربية توفيق الجديدة لم تصل له من باريس، ووعد منه عندما تصل يزورنى ولو في السنة مرة، وأبدًا لن ينسانى بالمرّة....»..
تجلس أم توفيق سيدة الثمانين الصلبة كالوتد، التي تتناول طعامها وشرابها الصحى من نتاج أرضها، تحت ظلال خميلة ورق العنب البناتى ومن حولها وعلى مدى الشوف صفوف أشجار الفواكه، من كل لون وصنف تطرح ثمارًا عجبًا طالبة الأكّال المتذوق، وتموج أبراج الحمام بالهديل الذى يفرخ شهريًا ما يقرب من 500 جوز حمام للأكل والبيع، إلى جانب سماد لا مثيل لجودته لتقوية التربة يُباع شهريًا بأكثر من 50 جنيها. و..فى جلسة الشاى الحميمة التى يقدم فيها أحد الأنفار الصينية والكعك للزائرة العالِمة الدكتورة فاطمة كاظم التي رحلت تاركة لى ما دار فى جلسة الخميلة تعتذر صاحبة الدار عن خرق قواعد الإتيكيت بقولها: «لا مؤاخذة.. عندنا السفرجى، بس النهاردة بالذات عنده راحة، والحمد لله عندنا الخدامين كتير، حاجة كده بتاعة عشرة غير السفرجى، وعندى كمان منصورة مساعدتى الخاصة، عايشة معايا من 24 سنة وفي مقام السكرتيرة وكتبت فى وصيتى إن منصورة من حقها تأخذ مرتبها الشهرى مدى الحياة مادامت لم تتزوج.. وأنا هنا بطولى مع طاقم الخدمة.. زهير مع مراته وأولاده فى الإسكندرية، وتوفيق فى القاهرة.. عاشقة لبيتى وأرضى التى كونتها بنفسى.. بجهدى.. بشطارتى.. كان عندى عمارتان ورثتهما عن والدتى بعتهم واشتريت كام فدان فى السنة التى ولدت فيها الحكيم والفدادين كبرت وطرحت وأصبحت عزبة.. اعتكفت هنا من سنة 1936 بعد وفاة زوجى المرحوم المستشار إسماعيل الحكيم، وفضل ابنى زهير المهندس الزراعى يتولى الأمور لمدة 12 سنة، لكنه بسبب مرضه اضطر للانتقال مع أسرته للإسكندرية لأتسلم منه الراية ومقاليد الأمور والنزول للغيط بنفسى، فالأرض لا تأتمن سوى صاحبها فهى بطينها تستشعر تعبه وعرقه وبذله وجهده فى رعايتها فتمنحه فى المقابل خيرها وثروتها»..
وعندما تستعرض أسماء تاريخ حياة الابن الشهير وهو غاية المراد تبدأها من حكايتها هى مع الزمن: «توفى والدى وأنا فى الثالثة لأستقبل مشاعر اليتم وأنا فى السن الصغيرة.. لم يكن بين الجدران سواى أنا وأمى وشقيقتى التى تكبرنى بعشرة أعوام.. كان كل ما عرفته عن أبى أنه مات شاباً فى الرابعة والثلاثين وأنا لم أزل فى اللفّة.. ومكثت طالبة فى مدرسة الليسيه الفرنسية حتى سن الثالثة عشرة التى من الوجوب فيها على فتيات الأسر العريقة القعدة في البيت لانتظار العريس، ولم يكن أمامى شغل وقت الفراغ المترامى سوى القراءة النهمة لجميع أنواع الكتب والروايات المترجمة، وعند بلوغى السادسة عشرة صحبتنى والدتى معها لفرح أحد الأقارب، وهناك شاهدتنى أسرة الحكيم، وتمت خطبتى فى نفس الليلة.. وجاءت أسرة العريس في اليوم التالى للاتفاق على استعدادات الزفاف الذى تم بعد ثلاثة أشهر فقط لا غير، وكان العريس إسماعيل الحكيم وقتها وكيل نيابة في السنطة فتركت الإسكندرية وبيتنا ورحت معه لآخر الدنيا.. وأنجبت زهير لأعانى بعدها من مضاعفات الحمل والولادة، فنصحنى الأطباء بتجنب الحمل مرة أخرى حتى لا أعرض حياتى للخطر.. ورفضت النصيحة.. ورفضت إجهاض الجنين القادم.. وبتاريخ 8 أكتوبر 1902 فى وسط الليل صرخ المولود وأسميناه حسين توفيق وكان توفيقاً من الله أن جاءت الولادة طبيعية ليزف لىّ زوجى الخبر بأن الخطر الذى كان يخشى على حياتى منه قد زال مع نمو الجنين.. والغريب والطريف أنه إذا كان جميع الأطفال لابد وأن يصرخوا لحظة دخول الهواء إلى الرئتين.. فكلهم كلهم إلا توفيق الذى ولد صامتاً حتى ظنناه أخرساً، لكنه كان رغم خرسه مستيقظاً مفتوح العينين ينظر بأحداق متطلعة متأملة لكل من ينحنى عليه!.. وكبر الولدين وعبرا مراحل التعليم، وأخذ زهير البكالوريا وسافر إلى باريس ودرس الزراعة ورجع لنا بالبكالوريوس رافضاً العمل فى الوظيفة الميرى والدخول في سلك درجات الحكومة وروتين العلاوات، واختار بذل جهده فى أرضه الخاصة ليطبق العلم على العمل، وكان زواجه موفقاً من كريمة محمد رفعت في عام 1939 التي عاشت معنا فى يُسر وسعة ووئام، فمن ناحيتى أنا عاشقة للاستقلال ولكل منا عالمه الخاص الذى لا يعتدى فيه على حرية الآخر»..
ذاك ما كان من أمر زهير، أما عن بيت القصيد توفيق فالأم قد وصفته عن قرب بقولها: «لا أحد يعرف ابنى سواى، حتى أصحابه المقربون يظلمونه كثيرًا، والصمت والسكون والسرحان والتأمل الذى يعتريه بينهم لم يكن جديدا عليه بل صاحبه منذ ولادته، توفيق فتح عينيه ليسرح بهما خارج الحدود بعيدا عن دائرته.. ابنى وُلد ليتأمل.. كثيرا ما كنت أناديه صغيرًا أكثر من مرة حتى يرد، وعندما أذهب إليه صارخة عاتبة أجده فى ملكوت آخر وليس معى.. ولاحظت عليه أنه يبتسم ويتجهم فجأة وحده دون أن يكون فى صحبة أحد.. يدور فى عالمه الخاص داخل عالمنا الكبير لكن ذلك لم يحل دون تجاوبه إذا ما تأزمت الأمور، أى أنه كان يعى الأحداث لكنه كان زاهدًا فى المشاركة مما جعل والده قلقاً على مستقبله متخوفاً عليه من مثل هذا التوحد مع الذات، ومازلت أذكر عندما اعتاد زميله في المدرسة القدوم للعب مع توفيق فى البيت رغم أنه لم يكن ميالا إلى اللعب.. وسأل زوجى يوما زميل توفيق عن تصرفاته فى الفصل فأخبره بأنه تلميذ خايب ودرجاته سيئة بينما يطلع هو الألفة على الفصل كله من شطارته، فما كان من زوجى إلا أن أعطى توفيق علقة ساخنة بالعصا مرددا على مسامعه: يا ولد بطّل سرحان وخللى دماغك هنا وفوق يا متوول ونظف ودانك.. وبات توفيق غارقاً فى دموعه يومها تحت السرير.. وكان الأمر مذهلا يوم إعلان النتيجة، حيث كان ترتيب توفيق فى الشهادة الأول وترتيب صديقه الكاذب الأخير، وتلك كانت العلقة الأولي والأخيرة من والده»..
ذلك ما قالته الست أسماء عن علاقة الأب بابنه توفيق، ومن أنها كانت العلقة الوحيدة التى نالها منه، ولكنها وهى التى تفاخرت بتفردها بمتابعته لم تعلم بما قاله لى الحكيم أنا جارة مكتبه بالأهرام عندما سألته يوماً عن سبب هجره للشعر العربى وكتابته أشعاره بالفرنسية فى فترة الشباب الأولى فذكر لىّ: «كان يوم جمعة قبل التحاقى بالتعليم الأميرى المنتظم، وقد ارتدى والدى المستشار جلبابه المنزلى وتناول إفطاره وقرأ جريدته، ولم يجد بعدها ما يفعل بوقته فنادانى قائلا: (تعالى أمتحنك!).. وناولنى كتاب المعلقات السبع.. ذلك الكتاب الذى كان يحبه ويترنم بأبياته.. وأخرج لى معلقة زهير بن أبى سلمى، وطلب منى أن أقرأها بصوت مرتفع، فلما وصلت إلى البيت القائل:
ومن لم يصانع فى أمور كثيرة..
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
سألنى يومها عن معنى يصانع فلم أوفق فى الإجابة.. وكيف لمن كان في سنى وقتها معرفة حقيقة المصانعة فى الحياة، بينما يجهل الحياة نفسها وعلاقة الأشخاص في ذلك المجتمع المتشابك المعقد، فلما لم أجب بما يقنعه رفع كفه الضخمة وضربنى على وجهى كفاً أسال الدم من أنفى، لتأتى جدتى على بكائى فصاحت فيه وأخذتنى من يدى إلى حجرتها تحمينى منه وأنا ألعن المعلقات وأصحابها.. بل ألعن الشِعر كله.. وكان من الطبيعى أن أحب الشِعر كما أحبه أبى، ولكن الدم الذى سال من أنفى بسببه جعلنى أمقته مدة طويلة، وكيف والله أحبه وقتها وبينى وبينه دم مسفوك!»..
وتمضى الأم فى حديث لا تمل ترديده عن فتاها النابغة: «كان توفيق دائما الأول على الفصل، محباً للعزلة حتى داخل البيت، وعندما كنا نقيم فى البداية بالإسكندرية كان من عادتى أن أضع له هو وشقيقه ليلا فتيلا مشتعلا بالزيت، إذ لم تكن هناك كهرباء بعد، وكنت أطلب من الخادمة أن تطفئه فى العاشرة تماما، وكثيرًا ما أستيقظ فى منتصف الليل لأطمئن عليهما وأشد العظاء، وذهبت مرة فلم أجد توفيق فى سريره وبحثت عنه دون جدوى في كل مكان حتى تنبهت إلى ضوء الفتيل تحت السرير، فقد تظاهر توفيق بالنوم وعاد ليشعل الفتيل ويختفى به تحت السرير ليقرأ حتى الصباح.. ولا أسرد طفولة ابنى دون ذكر حبه الشديد للحيوانات خاصة الحمير بنوع خاص، وظلموه عندما كان يكتب مقاله تحت عنوان «حمار الحكيم» بأنه اقتبس فكرته من الكاتب الإسبانى «خاثنته بنافنته» الذى كان له كتاب بعنوان «بلاتيرو وأنا» وبلاتيرو هذا هو اسم حمار ذلك الكاتب الفائز بجائزة نوبل فى الأدب.. توفيق وهو تلميذ فى دمنهور كان يقيم مع شقيقه فى شقة استأجرتها لهما، وأحضرت طباخا ليقوم على خدمتهما، وحدث أن ذهبت لزيارتهما فى يوم الاثنين، ويوم الاثنين هذا هو يوم السوق الذى يأتى فيه تجار الحمير من الأرياف لبيعها فى دمنهور، فكانوا يقومون بربط الحمير فى حديد شباك الغرفة التى يقيم فيها توفيق، وعندما لاحظت ذلك طلبت من الطباخ ألا يسمح لهم بذلك، وقبل أن أنهى تعليماتى للطباخ فوجئت بابنى يدخل من باب الشقة وهو يدفع أمامه حمارا صغيرا مزرجناً رافضاً الحراك مما أثار عاصفة من الضحك، فقال لى والفرحة تقفز من ملامح وجهه: «شوفتى يا ماما.. اشتريته ب40 قرشا.. حوِّشتها من مصروفي، وكان مصروفه كله يومياً لا يزيد على قرش صاغ واحد.. ولم أشأ أن أغضبه فى حينه وهو يصطحب حماره ليربطه فى رجل السرير»..
بعد الابتدائية ينتقل الحكيم إلى الإسكندرية. يعشق السينما وحلقات «فانتوس». يذوب فى الأدب. يشترى الروايات، أى رواية.. يسقط فى الامتحان.. تعنفه والدته وتحظر عليه الذهاب إلى السينما، ولكن الغواية تشده إلى السينما.. يتأخر عن العودة مساء.. تنتظره ولا تفتح الباب: ماعندناش ولاد يسهروا.. كنت فين؟!!.. طبعا في السينماتغراف.. لأ.. طيب ورينى الخمسة قروش اللى كنت محوِّشهم؟.. ويعترف.. ويظل الباب مغلقاً في وجهه ويلفه الصقيع طول الليل واقفاً على قارعة الطريق حتى أشارت له الجدة من النافذة بعد أن نام أهل البيت.. فتحت له ودخل.. وتُسامحه والدته بشرط أن يقسم برأس جده البسطامى ألا يقرب السينما حتى البكالوريا.. وقد كان حتى قولها: «فى السابعة عشرة من عمره فوجئت به يدخل علىّ ويضع فى يدى 30 جنيها، فسألته عنها فقال إنه كتب مسرحية اسمها (العريس) وباعها لفرقة عكاشة.. وثار والده يومها حتى لا يتجه توفيق لتيار الأدب وكتابة المسرحيات، وكنا نأمل أن نراه يوماً وهو جالس على مقعد أبيه مستشارًا، وكنت كلما حدثته عن أحلامى المنعقدة عليه، يسرح منى بعيدًا وكأننى أحادث شخصاً آخر أو أبعبع فى الهواء.. لكنه نجح فى الحقوق وأخذ الليسانس وتنفسنا الصعداء، فقد وضعناه على أول الطريق المأمول، ولكن سنه وقتها لم تؤهله للعمل الحكومى، فأبدى رغبته للسفر إلى باريس للحصول على الماجستير والدكتوراه فى القانون.. وسافر وعاد بعد ثلاث سنوات لتصدمنا الحقيقة.. لم يتفرغ هناك للقانون وإنما للأدب والفن».. ويحكى الحكيم على لسانه جانباً من حياة باريس: «كنت أتوجه إلى حدائق التوليرى ومنها إلى متحف اللوفر كل أحد صباحا لأنه اليوم الذى هيأت إدارته دخول ذلك المتحف الفريد بالمجان!.. كنت أقف مشدوهاً.. أوزع أيام الآحاد بين قاعاته.. أخصص يوماً كاملا لكل قاعة فيه.. أحاول أن أدرس سر اختيار اللون وانسجامه مع الألوان الأخرى.. كل لوحة عالم.. مسرح، ومسرحية داخل إطار».
ولا أحد يعرف عن توفيق الحكيم إلا أمه بأنه حاول أن يرسم صغيرا ليغدو فنانا كبيرا، وفي باريس بدأ فى تأليف كتاب عن الفن من ثلاثة أجزاء، الأول عن الفن عامة ومذاهبه، والثاني عن مراحل الفن المصرى وأشهر نجومه، والثالث عن الفن الحديث ولوحات السريالية والتكعيبية والتجريد، لكنه يمزق الصفحات الخمسين التي بدأها من كتابه ويكمل سكة المسرح والرواية، وتؤكد السيدة أسماء أن شخصيات رواية «عودة الروح» هم أفراد أسرة الحكيم، وحول إنتاجه الأدبى تقول إنها قرأت كل كلمة كتبها، وفي غرفتها دولاب صحارة تحتفظ بداخله بأرشيف كامل عنه مع لعب طفولته وشهادات دراسته وقطعاً من ملابسه وجميع كتبه ومؤلفاته ورسائله لها من باريس ومسودات مقالاته وخطابات مغلفة بشريطها الأزرق طلب منها أن تحتفظ له بها بعيدا عن العيون، ودوسيه غليظ يضم إنذارات جاءته وهو موظف فى الحكومة، ومرسوم عقاب بخصم أيام من راتبه فى عام 47 عندما اشترك في قضية «الفن القصصى فى القرآن» وهى حول رسالة جامعية كانت قد قُدمت إلى كلية الآداب بجامعة فؤاد «القاهرة» يطالب البعض بحرقها لأنها تتعرض إلي بعض النواحى الفنية التى لا ينبغى التعرض لها في القرآن الكريم، وتناول الحكيم القضية في أخبار اليوم وكانت قد أثارت العجب لأن عالمين جليلين من علماء الدين: الشيخ عبدالمجيد سليم، والشيخ شلتوت أفتيا لصاحب الرسالة بالأجر، بينما أساتذة الجامعة حكموا عليه بالكفر، واتهم الأستاذ أمين الخولى المشرف على الرسالة عقلية أساتذة الجامعة بالتخلف، وكانت معركة فكرية احتفظ توفيق الحكيم بأوراقها للتاريخ بعد مطالبته رئيس الحكومة النقراشى باشا بالاستقالة، وتذكر الوالدة أن دوسيه القضية قد كتب توفيق الحكيم عليه بخط يده «صرير القلم اليوم هو نفير الإصلاح غدا»..
وعندما أهداه جمال عبدالناصر وسام الجمهورية جلست الأم بجوار الراديو، وما أن سمعت اسمه حتى حزمت أمتعتها وسافرت إليه تصحبها منصورة السكرتيرة، ومحمد شاهين ناظر الزراعة، ويستضيف توفيق الحكيم الموسيقار محمد عبدالوهاب أياماً فى العزبة عندما اشترى منه قصة فيلم «رصاصة فى القلب».. أرسل للأم خطابا يخبرها بقدومه مع أحد الأصدقاء طالبا إعداد فطير مشلتت بالقشدة والعسل وأرز معمر «فوجئت بعبدالوهاب الذى قضى بيننا سبعة أيام مضت فى ثوان من عمر الزمان غنى لنا فيها عبدالوهاب أجمل أغانيه، وفى كل ليلة بعد الغروب يتجمع الأنفار وأهل القرية حول البيت يسمعون شدو البلبل، ومن بعد فيلم (رصاصة فى القلب) وأغنية (سنتى بتوجعنى شوفى لى أى علاج حالا، وإنت يلزم لك واحد جواهرجى مش واحد دكتور).. من بعدها لم أذهب إلى السينما، ولم أشاهد مسرحيات توفيق وإن كنت قد قرأتها كلها، وكان لازم يدعونى من غير ما أطلب، أنا أمه، أنا من اختارت له أكثر من عروسة من بنات الباشوات لكنه فى كل مرة كانت حجته لسه بدرى، لغاية ما جاءنى فى العزبة عام 44 يقول لى عايز أتجوز، سألته إذا ما كانت واحدة معينة حاططها فى نافوخه، قال لى أخت واحد صاحبه شافها ماشية معاه فى الشارع افتكرها للوهلة الأولى زوجته..
وعدت لأستفسر: عاجباك يا حبيبى؟.. على خيرة الله، وتم الزواج عام 44 وحقيقة أبصم بالعشرة إن توفيق ابنى عرف يختار.. مش عارفة أقول إيه ولاّ إيه عن جمال وكمال الست دى.. ممتازة فى كل حاجة وذوق ذوق ذوق.. عِرفت معدن توفيق وقرأته وفهمته وهضمته وتركته بذكاء يعيش بكامل حريته، ومن يوم ما دخلت بيته لغاية يومنا هذا العيشة ما بينهم، خمسة وخميسة، تفاهم وانسجام ووئام.. وغير صحيح إن الحماة وزوجة الابن دائما علي خلاف طالما أم الزوج شايفاه عايش سعيد مع واحدة إنسانة عايزة تعشش مش واحدة ملتاثة عايزة تطفش.. وعلي الأصل دوّر.. وكمان توفيق ابنى شايف مصلحة بيته على الآخر.. كل حاجة فى بيته مستكفية.. يقبض الماهية يحطها فى إيدها وهى تصرف، ويادوب ياعين أمه حاجة بتاعة خمسة ستة جنيهات هى اللى يشيلها فى جيبه.. وتوفيق كريم وإيده فارطة بعكس الكلام اللى بيقولوه عليه..
يعنى مش بخيل، والحكاية وما فيها إنه بيعرف يحط القرش فى مكانه.. وتوفيق عمره ما طلب منى مليم أحمر بعكس أخوه زهير اللى له كل شهر 80 جنيها، وقبل يوم عشرين يشد الجواب الفلوس خلصت يا ماما، وأنا برضه من جهتى أساعد توفيق بالحمام والفراخ وكل حاجة البيت عايزها، وفى آخر السنة أحط إيدى في 500 أو 600 جنيه علشان كسوة الأولاد..
أنا فخورة بابنى الكاتب، لا بابنى المستشار كما كنت أريد له، وعندما أقرأ له مقالا أو رواية أو عبارة جميلة كتبها أضعها فى إطار فاخر جدير بها.. إنها عندى أغلى من جواهر الأرض، ولا أظن أنه لو أصبح مستشارا كنت سأحتفظ بأحكامه للذكرى، أو أحاول وضع الحيثيات التى يصدرها فى إطار من صفيح.. ابنى الحكيم كان إذا ما تبدى اليأس يوماً من حوله وعكرت الجو عبارة (مافيش فايدة)، كنت أراه غاضبا يدافع عن مصر بقوله: لا هناك فايدة وعشرات الفوائد، وإن أمة أتت فى فجر الإنسانية بمعجزة الهرم لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى أو معجزات.. أمة يزعمون أنها ميتة ولا يرون قلبها العظيم بارزاً نحو السماء بين رمال الجيزة.. لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد)»..
نقلا عن " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.