أسميناه"توفيق" لأن الله أنقذنا من مخاطر الولادة ابني وُلد ليتأمل وقرأت كل ما خطته يداه احتفظ في "دولاب" خاص بكل مؤلفاته مع لعبه وشهاداته وقطع ملابسه! فخورة بابني "الكاتب" لا "المستشار" كما تمنيت! عباراته أغلى عندي من جواهر الأرض! جسّد الكاتب الكبير توفيق الحكيم شخصية والدته السيدة أسماء البسطامى في روايته الخالدة "عودة الروح" التي نسج من وحيها شخصية بنت السلطان، ورغم أنه لم يذكر اسمها يوماً، فقد كان يصفها بأنها "الجندى المجهول في حياته". "محيط" في عيد الأم يتوقف عند مقال سناء البيسي الرائع عن توفيق الحكيم في عيون والدته ويحمل عنوان "ماما أسماء.. وابنها توفيق الحكيم". تذكر البيسي: مهما صنّف النقاد الحكيم، وتمعنوا فى صفحات سيرته، فأمه أسماء عرفت أكثر وأكثر وأصدق منذ سكن رحمها إلى أن سكن بعيدًا عنها ببلاد وجبال وبحور ليزورها كلما طالت غيبته ليجد غرفته مجهزة لامعة فى انتظاره، وغياره النظيف مكويًا فوق الفراش الحاضن، وعلى الشماعة الروب المنزلى القطيفة المقلم، وفوق رف مرآة الحمام فرشاة الحلاقة وأمواس بشوكها داخل أغلفتها، وزجاجة الكولونيا الثلاث خمسات بغلاف الفابريكة، وطاقم البشاكير الكنارى اللون الذى يحبه منذ طفولته، ومقعد الشرفة الهزاز فى موضعه المعهود في الركن القصى يطل من الدور الثانى على الحديقة الغنّاء فى عزبة الحكيم البالغ مساحتها 155 فدانا، بدمنهور.. و..دائماً يقبع "ركس" كلب الحكيم أمام البوابة في انتظار أوبة الغائب للقفز من حوله وهز ذيله ترحيباً بصاحبه.. عندما تستعرض السيدة أسماء تاريخ حياة الابن الشهير تقول: "أنجبت ابني"زهير" لأعانى بعدها من مضاعفات الحمل والولادة، فنصحنى الأطباء بتجنب الحمل مرة أخرى حتى لا أعرض حياتى للخطر.. ورفضت النصيحة.. ورفضت إجهاض الجنين القادم.. وبتاريخ 8 أكتوبر 1902 فى وسط الليل صرخ المولود وأسميناه حسين توفيق وكان توفيقاً من الله أن جاءت الولادة طبيعية ليزف لىّ زوجى الخبر بأن الخطر الذى كان يخشى على حياتى منه قد زال مع نمو الجنين.. والغريب والطريف أنه إذا كان جميع الأطفال لابد وأن يصرخوا لحظة دخول الهواء إلى الرئتين.. فكلهم كلهم إلا توفيق الذى ولد صامتاً حتى ظنناه أخرساً، لكنه كان رغم خرسه مستيقظاً مفتوح العينين ينظر بأحداق متطلعة متأملة لكل من ينحنى عليه!.. وصفته أمه فقالت: "لا أحد يعرف ابنى سواى، حتى أصحابه المقربون يظلمونه كثيرًا، والصمت والسكون والسرحان والتأمل الذى يعتريه بينهم لم يكن جديدا عليه بل صاحبه منذ ولادته، توفيق فتح عينيه ليسرح بهما خارج الحدود بعيدا عن دائرته.. ابنى وُلد ليتأمل.. كثيرا ما كنت أناديه صغيرًا أكثر من مرة حتى يرد، وعندما أذهب إليه صارخة عاتبة أجده فى ملكوت آخر وليس معى.. ولاحظت عليه أنه يبتسم ويتجهم فجأة وحده دون أن يكون فى صحبة أحد.. يدور فى عالمه الخاص داخل عالمنا الكبير لكن ذلك لم يحل دون تجاوبه إذا ما تأزمت الأمور، أى أنه كان يعى الأحداث لكنه كان زاهدًا فى المشاركة مما جعل والده قلقاً على مستقبله متخوفاً عليه من مثل هذا التوحد مع الذات، ومازلت أذكر عندما اعتاد زميله في المدرسة القدوم للعب مع توفيق فى البيت رغم أنه لم يكن ميالا إلى اللعب.. وسأل زوجى يوما زميل توفيق عن تصرفاته فى الفصل فأخبره بأنه تلميذ خايب ودرجاته سيئة بينما يطلع هو الألفة على الفصل كله من شطارته، فما كان من زوجى إلا أن أعطى توفيق علقة ساخنة بالعصا مرددا على مسامعه: يا ولد بطّل سرحان وخللى دماغك هنا وفوق يا متوول ونظف ودانك.. وبات توفيق غارقاً فى دموعه يومها تحت السرير.. وكان الأمر مذهلا يوم إعلان النتيجة، حيث كان ترتيب توفيق فى الشهادة الأول وترتيب صديقه الكاذب الأخير، وتلك كانت العلقة الأولي والأخيرة من والده". وتمضى الأم فى حديث لا تمل ترديده عن فتاها النابغة: "كان توفيق دائما الأول على الفصل، محباً للعزلة حتى داخل البيت، وعندما كنا نقيم فى البداية بالإسكندرية كان من عادتى أن أضع له هو وشقيقه ليلا فتيلا مشتعلا بالزيت، إذ لم تكن هناك كهرباء بعد، وكنت أطلب من الخادمة أن تطفئه فى العاشرة تماما، وكثيرًا ما أستيقظ فى منتصف الليل لأطمئن عليهما وأشد العظاء، وذهبت مرة فلم أجد توفيق فى سريره وبحثت عنه دون جدوى في كل مكان حتى تنبهت إلى ضوء الفتيل تحت السرير، فقد تظاهر توفيق بالنوم وعاد ليشعل الفتيل ويختفى به تحت السرير ليقرأ حتى الصباح. ولا أسرد طفولة ابنى دون ذكر حبه الشديد للحيوانات خاصة الحمير بنوع خاص، وظلموه عندما كان يكتب مقاله تحت عنوان "حمار الحكيم" بأنه اقتبس فكرته من الكاتب الإسبانى "خاثنته بنافنته" الذى كان له كتاب بعنوان "بلاتيرو وأنا" وبلاتيرو هذا هو اسم حمار ذلك الكاتب الفائز بجائزة نوبل فى الأدب.. توفيق وهو تلميذ فى دمنهور كان يقيم مع شقيقه فى شقة استأجرتها لهما، وأحضرت طباخا ليقوم على خدمتهما، وحدث أن ذهبت لزيارتهما فى يوم الاثنين، ويوم الاثنين هذا هو يوم السوق الذى يأتى فيه تجار الحمير من الأرياف لبيعها فى دمنهور، فكانوا يقومون بربط الحمير فى حديد شباك الغرفة التى يقيم فيها توفيق، وعندما لاحظت ذلك طلبت من الطباخ ألا يسمح لهم بذلك، وقبل أن أنهى تعليماتى للطباخ فوجئت بابنى يدخل من باب الشقة وهو يدفع أمامه حمارا صغيرا مزرجناً رافضاً الحراك مما أثار عاصفة من الضحك، فقال لى والفرحة تقفز من ملامح وجهه: "شوفتى يا ماما.. اشتريته ب40 قرشا.. حوِّشتها من مصروفي، وكان مصروفه كله يومياً لا يزيد على قرش صاغ واحد.. ولم أشأ أن أغضبه فى حينه وهو يصطحب حماره ليربطه فى رجل السرير".. بعد الابتدائية ينتقل الحكيم إلى الإسكندرية. يعشق السينما وحلقات "فانتوس". يذوب فى الأدب. يشترى الروايات، أى رواية.. يسقط فى الامتحان.. تعنفه والدته وتحظر عليه الذهاب إلى السينما، ولكن الغواية تشده إلى السينما.. يتأخر عن العودة مساء.. تنتظره ولا تفتح الباب: ماعندناش ولاد يسهروا.. كنت فين؟!!.. طبعا في السينماتغراف.. لأ.. طيب ورينى الخمسة قروش اللى كنت محوِّشهم؟.. ويعترف.. ويظل الباب مغلقاً في وجهه ويلفه الصقيع طول الليل واقفاً على قارعة الطريق حتى أشارت له الجدة من النافذة بعد أن نام أهل البيت.. فتحت له ودخل.. وتُسامحه والدته بشرط أن يقسم برأس جده البسطامى ألا يقرب السينما حتى البكالوريا.. وقد كان حتى قولها: «فى السابعة عشرة من عمره فوجئت به يدخل علىّ ويضع فى يدى 30 جنيها، فسألته عنها فقال إنه كتب مسرحية اسمها (العريس) وباعها لفرقة عكاشة.. وثار والده يومها حتى لا يتجه توفيق لتيار الأدب وكتابة المسرحيات، وكنا نأمل أن نراه يوماً وهو جالس على مقعد أبيه مستشارًا، وكنت كلما حدثته عن أحلامى المنعقدة عليه، يسرح منى بعيدًا وكأننى أحادث شخصاً آخر أو أبعبع فى الهواء.. لكنه نجح فى الحقوق وأخذ الليسانس وتنفسنا الصعداء، فقد وضعناه على أول الطريق المأمول، ولكن سنه وقتها لم تؤهله للعمل الحكومى، فأبدى رغبته للسفر إلى باريس للحصول على الماجستير والدكتوراه فى القانون.. وسافر وعاد بعد ثلاث سنوات لتصدمنا الحقيقة.. لم يتفرغ هناك للقانون وإنما للأدب والفن". وتؤكد السيدة أسماء أن شخصيات رواية "عودة الروح" هم أفراد أسرة الحكيم، وحول إنتاجه الأدبى تقول إنها قرأت كل كلمة كتبها، وفي غرفتها دولاب صحارة تحتفظ بداخله بأرشيف كامل عنه مع لعب طفولته وشهادات دراسته وقطعاً من ملابسه وجميع كتبه ومؤلفاته ورسائله لها من باريس ومسودات مقالاته وخطابات مغلفة بشريطها الأزرق طلب منها أن تحتفظ له بها بعيدا عن العيون، ودوسيه غليظ يضم إنذارات جاءته وهو موظف فى الحكومة، ومرسوم عقاب بخصم أيام من راتبه فى عام 47 عندما اشترك في قضية "الفن القصصى فى القرآن" وهى حول رسالة جامعية كانت قد قُدمت إلى كلية الآداب بجامعة فؤاد "القاهرة" يطالب البعض بحرقها لأنها تتعرض إلي بعض النواحى الفنية التى لا ينبغى التعرض لها في القرآن الكريم، وتناول الحكيم القضية في أخبار اليوم وكانت قد أثارت العجب لأن عالمين جليلين من علماء الدين: الشيخ عبدالمجيد سليم، والشيخ شلتوت أفتيا لصاحب الرسالة بالأجر، بينما أساتذة الجامعة حكموا عليه بالكفر، واتهم الأستاذ أمين الخولى المشرف على الرسالة عقلية أساتذة الجامعة بالتخلف، وكانت معركة فكرية احتفظ توفيق الحكيم بأوراقها للتاريخ بعد مطالبته رئيس الحكومة النقراشى باشا بالاستقالة. وتذكر الوالدة أن دوسيه القضية قد كتب توفيق الحكيم عليه بخط يده "صرير القلم اليوم هو نفير الإصلاح غدا". وعندما أهداه جمال عبدالناصر وسام الجمهورية جلست الأم بجوار الراديو، وما أن سمعت اسمه حتى حزمت أمتعتها وسافرت إليه تصحبها منصورة السكرتيرة، ومحمد شاهين ناظر الزراعة، ويستضيف توفيق الحكيم الموسيقار محمد عبدالوهاب أياماً فى العزبة عندما اشترى منه قصة فيلم "رصاصة فى القلب".. أرسل للأم خطابا يخبرها بقدومه مع أحد الأصدقاء طالبا إعداد فطير مشلتت بالقشدة والعسل وأرز معمر "فوجئت بعبدالوهاب الذى قضى بيننا سبعة أيام مضت فى ثوان من عمر الزمان غنى لنا فيها عبدالوهاب أجمل أغانيه، وفى كل ليلة بعد الغروب يتجمع الأنفار وأهل القرية حول البيت يسمعون شدو البلبل، ومن بعد فيلم (رصاصة فى القلب) وأغنية (سنتى بتوجعنى شوفى لى أى علاج حالا، وإنت يلزم لك واحد جواهرجى مش واحد دكتور).. من بعدها لم أذهب إلى السينما، ولم أشاهد مسرحيات توفيق وإن كنت قد قرأتها كلها. وتنفي عنه صفة البخل قائلة: توفيق كريم وإيده فارطة بعكس الكلام اللى بيقولوه عليه.. يعنى مش بخيل، والحكاية وما فيها إنه بيعرف يحط القرش فى مكانه.. وتوفيق عمره ما طلب منى مليم أحمر بعكس أخوه زهير اللى له كل شهر 80 جنيها، وقبل يوم عشرين يشد الجواب الفلوس خلصت يا ماما. فخورة بابنى الكاتب، لا بابنى المستشار كما كنت أريد له، وعندما أقرأ له مقالا أو رواية أو عبارة جميلة كتبها أضعها فى إطار فاخر جدير بها.. إنها عندى أغلى من جواهر الأرض، ولا أظن أنه لو أصبح مستشارا كنت سأحتفظ بأحكامه للذكرى، أو أحاول وضع الحيثيات التى يصدرها فى إطار من صفيح.