"المحل مغلق لأعمال الصيانة السنوية" .. بهذه العبارة المثيرة للقلق يستقبل مقهى ريش الثقافى زبائنه من عشاق الجلوس فى رحاب الذكريات بعد تاريخ طويل تجاوز قرنا من الزمان، كان صاحب المقهى مجدى ميخائيل عبد الملاك، قد توفى منذ عدة أيام تاركا ريش فى مهب الريح، وسط مخاوف من إغلاق هذا المقهى للأبد إما ببيعه أو تصفيته أو تحويل نشاطه لشيء آخر .. حيث لم يظهر فى الأفق حتى الآن ورثة شرعيون يحافظون على تراث هذا المقهى ومقتنياته الثمينة ولهذا اكتفى مقهى ريش بإغلاق أبوابه بشكل كامل. الكافيه مغلق ومثقفون يحذرون من أن يلقى مصير مقاهى متاتيا وعبد الله وإيزافيتش مطالب بضمه للآثار ومخاوف من ضياع مقتنيات ثورة 1919
وتنبع مخاوف المثقفين من أن يلقى ريش مصير مقاه أخرى مماثلة، منها على سبيل المثال قهوة "متاتيا" التى كان يجلس عليها الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغانى وعبد الله النديم وسعد زغلول، ومقهى إيزافيتش التى كانت تقع فى ميدان التحرير، وكذلك مقاهى عبد الله والبرج وسان سوسى بمنطقة الجيزة. كان الراحل مجدى ميخائيل طيلة عقود بمثابة الحارس الأمين الذى حافظ على تراث وتاريخ هذا المقهى العريق، وقد قام بتجديده عدة مرات وحافظ على الروح الكلاسيكية به، وفى بداية التسعينيات اكتشف سردابا سريا بالمقهى، هذا السرداب قاده لغرفة كان يستغلها ثوار ثورة 1919 فى طباعة المنشورات والاختباء بها من رجال البوليس، ووجد بهذه الغرفة التى تقع أسفل ريش مطبعة بدائية الصنع وعدة منشورات وبعض الأوراق وأدوات الكتابة، وقام ميخائيل بتجديد وتطوير هذه الغرفة وافتتحها للزوار، كما ظل يحافظ على صالون ريش الثقافى للأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ والذى ضم العديد والعديد من الكتاب الكبار كتوفيق الحكيم والغيطانى ويوسف القعيد ونجيب سرور وعبد الحكيم قاسم وإبراهيم منصور ويوسف إدريس وغيرهم. وعلى مدار نحو 107 أعوام، كان مقهى ريش جزءا أساسيا من ذاكرة القاهرة الثقافية والسياسية والحضارية، وعاند المقهى ضربات القدر الموجعة لكنه لم يستسلم وظلت ملكيته تتنقل بين عدد من الخواجات حتى استقرت لدى الراحل مجدى ميخائيل وهو أول مالك مصرى له، حيث تشير المعلومات التاريخية إلى أن هذا المقهى قد شيده رجل ألماني فى بدايات القرن العشرين، ثم باعه عام 1914 إلى هنري بيير أحد الرعايا الفرنسيين فى ذلك الوقت وهو من أطلق عليه اسم "ريش" ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن كجزء من التراث الثقافى لهذه العاصمة العالمية.. ثم اشتراه تاجر يوناني مشهور من صاحبه الفرنسي، ووسعه، حتى قرر أن يبيعه للراحل مجدي عبد الملاك ميخائيل، وهو أول مالك مصري له. جيران المقهى من أصحاب المحلات يؤكدون أن ورثة ميخائيل سيعيدون افتتاح المقهى مجددا بناء على وصية صاحبه الراحل، حيث يذكر محمود سالم، صاحب محل ملابس بشارع طلعت حرب، أن المقهى تم إغلاقه قبيل وفاة الأستاذ مجدى ميخائيل، لكن هذا لا يعنى أن إغلاق ريش نهائي، ولكن هناك بعض الورثة الشرعيين سوف يقومون بتنظيم إدارة المقهى مرة أخرى خاصة وأن وضعه القانونى مستقر ولا يستطيع أحد إزالته أو التعرض له حيث يعمل برخصة رسمية كمحل وبار وكافيه سياحى بخلاف المقاهى الشعبية التى تعرضت للإغلاق بوسط البلد لأنها تعمل إشغالات فى الشوارع ولا تعمل برخصة رسمية، أما عم فلفل وهو الشخصية الأشهر فى هذا المقهى فوجوده مرتبط بعودة العمل فى المقهى وهو يعيش فى حاله ولا نعلم عنه شيئا. ولا تتوقف جهود رواد مقهى ريش من المثقفين عن محاولة تقنين وضع هذا المقهى والاعتراف به كأثر ثقافى من قبل وزارة الدولة للآثار بحيث يتم توفير الحماية القانونية للكافيه الشهير، ومن بين هذه المجهودات ما تقوم به الشاعرة الإماراتية ميسون صقر حيث اتخذت خطوات كبيرة فى المشروع من حيث توثيق وتصوير كل ما يخص المقهى. ومن جانبه يرى الدكتور محمد حامد عبد الله، كاتب وناقد أدبى، أن الكرة الآن فى ملعب الورثة، فهل سيسعون للحفاظ على ريش واستمرار بقائها أم سيلجأون لإغلاق المقهى وإنهاء دوره الثقافى والتاريخى، وهذا السؤال ننتظر الإجابة عليه بعد نهاية فترة الحداد على صاحبه والذى على ما يبدو أنه أوصى بحماية المقهى والحفاظ عليه، وليست تلك هى المرة الأولى التى يتعرض فيها المقهى للإغلاق، فقد سبق وأن تم إغلاقه فى فترة السبعينيات، أيام حكم الرئيس السادات حيث كان يجلس على المقهى شرائح من المثقفين والسياسيين من الطبقة الوسطى وكان النقاش يدور بشكل حاد حول الأوضاع الاقتصادية والسياسية واتفاقية الصلح مع إسرائيل، وترتب على ذلك أن تعرض المقهى لتهديدات أمنية ووصل الأمر لدرجة التلويح بإغلاقها بقرار إدارى بتهمة مخالفة القوانين الاستثنائية أو قانون الطوارئ، وبعد فترة طويلة من الإغلاق قام صاحب ريش بإعادة افتتاحها واستحدث أساليب كثيرة بحيث تتخلى المقهى عن الطابع الشعبى وتتحول من قهوة إلى كافيه شبه سياحى واستحدث نظام "minimum charge"أو الدفع بنظام الحد الأدنى، وكان الزبائن أيام نجيب محفوظ يجلسون على كراسى خشبية خارج المقهى، وهو ما تم إلغاؤه واقتصر الجلوس على داخل المقهى فقط وتم تقديم وجبات وأنواع معينة من "المسكرات".. ولهذا فقدت ريش الطابع الشعبى ولم يعد يجلس عليها أبناء الطبقة الوسطى أو المثقفون البسطاء كما كان فى الماضى ومع ذلك لم تتخل ريش عن دورها الثقافى حيث حافظ عبد الملاك على الصالون الأدبى وقام بتطوير وتجديد المقهى مرات عديدة قبل وفاته. جدير بالذكر أن مجدى عبد الملاك ولد فى محافظة أسيوط عام 1932، وتدرج فى الرتب العسكرية حتى تولى درجة لواء طيار، وشارك فى حرب عام 1967 كما شارك فى حرب أكتوبر 1973، ثم تفرغ لإدارة المقهى حتى وفاته.