جاءت وفاة مجدى عبدالمالك، صاحب مقهى «ريش»، الشهير لتفتح الباب للحديث عن تاريخ المقهى العتيق وعلاقته بالثقافة، خاصة بعد ما أثير فى السنوات الأخيرة من محاولة بعض المثقفين المصريين والعرب لضم المقهى إلى وزارة الآثار، وفالفعل ثمة مجهودات كانت قد بدأتها الشاعرة الإماراتية ميسون صقر بالتعاون مع مجدى عبد المالك صاحب المقهى، واتخذت الشاعرة خطوات كبيرة فى المشروع من حيث توثيق وتصوير كل ما يخص المقهى، ولكن ربما مرض عبد المالك الأخير كان قد حال بينهم وبين اكتمال المشروع. فمنذ عام 1919 ويعتبر المقهى ركنا أساسيا فى ذاكرة الثقافة المصرية والعربية أيضاً، خاصة بعد ارتباط اسمه بالأحداث السياسية التى مرت بها مصر والمنطقة العربية على مدى أكثر من قرن، وكذلك وجوده كقاسم مشترك بين عدد كبير من الأعمال الروائية ظهر فيها المقهى كأحد أبطال الكتاب أو حتى الرواية، بداية من عبد الرحمن الرافعي في كتابه «تاريخ مصر القومي 1914- 1921»، وحتى هذا الوقت عندما قام الكاتب أحمد مراد في روايته الأخيرة 1919 بالإشارة إلى قصة الأبطال الثوريين في ثوره 1919 والمنشورات وطباعتها فى المقهى. تأسس مقهى «ريش» عام 1908 علي أنقاض قصر محمد علي بالقاهرة ويعد أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية، يقع قرب ميدان طلعت حرب. شيد هذا المقهى ألماني، باعه عام 1914 إلى هنري بير أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم «ريش» ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس الذي ما زالت قائمة إلى الآن، و«كافيه ريش» بالفرنسية تعنى المقهى الغنى دلالة على الثراء الثقافى والفكري، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى اشتراه تاجر يوناني مشهور من صاحبه الفرنسي، ووسعه وحسّن بناءه، ثم اشتراه مجدي ميخائيل، وهو أول مالك مصري له. فى بداية الخمسينيات، محافظاً على العادات التراثية وهوية الشكل القديم. و كان المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، والمثال كامل جاويش والرسام أحمد طوغان والمحامي الأديب عباس الأسواني وشاعر النيل حافظ إبراهيم وامام العبد ومحجوب ثابت ومحمد البابلي والشيخ أحمد العسكري وكامل الشناوي ومحمد عوده كامل زهيري ومحمود السعدني وعبدالرحمن الخميسي وزكريا الحجاوي وايضا كثير من اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين واشهرهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وحسين الحلاق السوري والشاعر معين بسيسو الفلسطيني والشاعر السوداني محمد الفيتوري ومحمد أحمد نعمان السياسي اليمني والامير علي عبد الكريم سلطان الحج المخلوع وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور نداوت نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها عصر يوم الجمعة منذ عام 1963 وذلك بعد وقف ندواته في مقهي الأوبرا وكان «ريش» يقدم المشاريب والوجبات بتخفيض خاص من باب الحفاوة بضيوف الروائي الكبير. ووفق عبدالرحمن الرافعي في كتابه «تاريخ مصر القومي 1914- 1921» فإن «ريش» ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى، كما عرف مقراً يجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدثون بشئونها أو شؤون البلاد العامة. كما كان معقل لمختلف الطلائع السياسية المتحررة يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون لكنهم غالبا ما يتفقون علي موقف واحد في مواجهه الملمات الكبري التي تحتاج الي التحشد والوحدة الوطنية ومعظم البيانات الوطنية كانت خارجه من هذا المكان. فقد كان «ريش» متنفسا لكل الطبقات والانواع من الناس علي اختلاف نزاعتهم وقد ظل البوليس السياسي يقصد المكان ويملأه بجواسيسه ورجال المخابرات والصحفيين الأجانب كل يفتش عن مآربه الخاصة وقياس الاخبار ومواكبة النبض المصري. وكان للمقهى دور كبير في ثورة عام 1919، بل يرى كثيرون أن صاحب المقهى في هذه الآونة كان عضوا في أحد أهم التنظيمات السرية، حيث وجدت فبعد 80 عاماً من ثورة 1919، تم العثور علي آلة لطبع المنشورات بعد ظهور شرخ في أحد جدران المقهي عقب زلزال 1992 وتم الكشف عن سرداب سري وبه منشورات وآلات طباعة يدوية أثناء عمليات الترميم وجدير بالذكر أن صاحب المقهي آنذاك تقدم بتصريح لحفلات موسيقية كلاسيكية ولكن الانجليز رفضو متحججين أن الاوركسترا سوف تقلق السكان فما كان إلا أن جمع صاحب المقهي توقيعات السكان ووضع صاحب المقهي السلطات أمام الأمر الواقع وتعالت أصوات الاوركسترا التي كانت تغطي علي اصوات الآلات الطباعة السرية. وفي العام 1972 انطلقت منه ثورة الأدباء، احتجاجاً على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنعاني. كما أنه في ديسمبر عام 1919 شهد محاولة اغتيال رئيس الوزراء وقتها يوسف وهبة. وكان المطرب الملحن الشيخ أبوالعلا محمد يغني ذات مساء مصطحبا تلميذته أم كلثوم وكانت لا تزال طفله ترتدي العقال والملابس العربية تعاقد المقهي معهما علي اقامه حفلات غنائية منتظمه حسبما أكدته صحيفة «المقطم» في عددها 30 الصادر مايو 1923 عبر إعلان يحدد يوم الخميس موعدا أسبوعيا لوصلات غنائية وتواشيح بصوتها الرقيق الذي ينفذ للقلب تحت عنوان «هلمو احجزوا محلاتكم من الآن كرسي مخصوص ب15 قرشا ودخول عمومي عشرة قروش».وكانت السيدة ام كلثوم بعد أن بلغت من الشهرة قمتها تحن الي «ريش» وقد شوهدت مرارا في الستينيات وهي تقف بسيارتها لمشاهده المقهي من بعيد. وكانت قد شوهدت اواخر الأربعينيات تجلس في المقهي علي طاولة تضم كامل الشناوي وأحمد رامي والفنان سليمان بك نجيب بينما القصبجي يطرب أسماعهم بأرق الالحان علي العود. وكان أيضا من أشهر رواد «ريش» الصحفي الأديب إبراهيم منصور. والشاعر نجيب سرور الذي كتب عن عوالم المقهي في ديوانه الشهير بروتوكولات حكماء «ريش» وفي بهو المقهى قدمت فرقة الفنان عزيز عيد المسرحية فصولاً عدة من مسرحياته التي قامت ببطولاتها الفنانة روز اليوسف، تخللها بعض المونولوجات، يغنيها الفنان محمد عبد القدوس، والد الأديب إحسان عبد القدوس، والذي تعرف علي الفنانة روز اليوسف التي كانت بطلة الفرقة وتوجت قصة حبهما بالزواج، كما كان من أشهر رواد المقهى الشاعر أحمد فؤاد نجم، وله قصيدة شعبية ذائعة الصيت وصف فيها أحمد فؤاد نجم المقهي ورواده.وكان ظهور نجم ورفيق دربه الشيخ امام الذي لحن وغني أشعاره بمثابة قنبلة موقوته فجرت الكثير من القضايا السياسية والأدبية والثقافية المسكوت عنها وحين ألقت المقادير نجم وامام وراء القضبان خرجت روائع الإبداعات الثورية. تم إغلاق «ريش» في حكم الرئيس السادات لما يتم فيه من مشادات ومناقشات ساخطة علي حكمه واتفاق السلام مع إسرائيل ومنهم عدد من الطلبة واللاجئين، السياسيين وضيوف القاهرة العرب وخشي صاحب المقهي اغلاقه بقرار إداري كونه يخالف قوانين الطوارئ التي تقتفي أثر التجمعات السياسية بدعوي حساسية الظروف التي تمر بها البلد في ذاك الوقت ولكن صاحب المقهي اعاد افتتاحه بعدها بسنوات وادخل أسلوب الحد الأدنى للدفع، مما ادي الي افتقاده لرواده التقلديين من متوسطي الحال وتلك الروح التي تؤجج الحوار والمناقشة. وقد خلد المقهي أبرز شخصياته في صور ورسوم تزين جنبات المقهي. ويتميز «ريش» عن باقي مقاهي القاهرة انه معلم بارز في تاريخ مصر الأدبي والثقافي والسياسي من أكثر من مائه عام وظل المقهي همزة وصل بين الجيل القديم والجيل الجديد من ظرفاء العصر ومبدعيه. ومن أبرز جارسونات «ريش» فلفل النوبي وهو اسم شهره لأكثر جرسونات مصر عملا بهذه المهنة وهو محمد حسين صادق فقد استمر عمله في «ريش» لأكثر من خمسين عاما متصله ظل خلالها موضع حب واحترام زبائن المقهي فكان يحمل في جيبه أجنده يدون فيها ثمن طلبات الرواد ع المقهي والي حين ميسره يتم الدفع وقد خلدت «ريش» فلفل عبر صوره كبيرة له تتصدر مدخلها وتحمل عباره القدوة. ظل المقهى شاهداً على أهم التحولات المصيرية فى تاريخ الشعب المصرى على مدار القرن العشرين. كما احتضن عددا كبيرا من الصالونات الثقافية والحلقات النقاشية، كما زينت لوحات بهجورى أركان المكان، جدير بالذكر أن مجدى عبد المالك صاحب المقهى من محافظة أسيوط، ولد فى عام 1932، وتدرج فى الرتب العسكرية حتى تولى درجة لواء طيار، وشارك فى الحرب عام 1967 كما ساهم فى انتصار أكتوبر 1973.