لكل بشرى فى الوجود نقطة ضعف ... لأنه بشرى ... ولأن الضعف سمة بشرية، لا يخلو منها بشرى واحد، مهما بدا قوياً منيعاً ... وحروب الجيل الرابع تسعى دوماً خلف نقطة الضعف، التى قد تبدو لصاحبها وكأنها نقطة قوة، وليس العكس، أو أن حروب الجيل الرابع تجعلها تبدو كذلك، من أجل تحقيق مصالحها، والوصول إلى هدفها ... وفى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، قال صن تزو، القائد العسكرى الصينى الأشهر، مؤلف كتاب فن الحرب، دستور كل العسكريين، منذ ذلك الحين: " عندما تكون لعدوك نقطة ضعف، اعمل على الضغط عليها، حتى تشعلها، فيندفع وقد غاب عنه العقل، وانعدمت فيه الحكمة، فيقع فى سهولة، فى الفخ الذى أعددته له"... وكم كان صن تزو حكيماً وعبقرياً فى قوله هذا؛ فنقطة الضعف هى بالفعل مصدر ضعف عدوَّك، ومنتهى الذكاء أن تصوَّرها له وكأنها نقطة قوة؛ فتضمن تحوَّله إلى قوة غاشمة، وطاقة غير مرشَّدة، يمكنك توجيهها إلى حيث تشاء، وأن تحقق بوساطتها أهدافاً، تكون فى المعتاد ضد عدوك نفسه ... اللعبة يلعبها البعض فى تلقائية أحياناً، دون أن تكون لديهم أدنى معرفة بصن تزو وكتابه (Art Of War )، فالنساء الشعبيات مثلاً، فى بعض المناطق فى مصر وإيطاليا وأمريكا الجنوبية، يعايرن أزواجهن أحياناً بأنهم ليسوا رجالاً، عندما يردن منهم القيام بعمل أخرق أو مندفع، وغالباً ما ينجحن فى هذا ... وفى الحروب التصادمية القديمة، من حروب الجيل الأوَّل، كانت هناك فرقة من الخيالة تقوم باستفزاز فرسان العدو؛ لتدفعهم إلى مطاردتها، بحيث تضع نفسها دون أن تدرى، من فرط انفعالها واندفاعها، داخل الفخ الذى تم إعداده لها، والذى يطبق عليها من كل جانب ... ولقد تطوَّر هذا مع حروب الجيل الرابع، والتى اعتمدت على نظرية الضعف لإعادة توجيهها إلى صدر الدولة المستهدفة، ولعل أبرز مثال على هذا هو تلك التيارات المتطرَّفة، التى ظهرت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، عندما وجد زبانية حروب الجيل الرابع أن الدين هو نقطة ضعف لدى المتطرفين، وأنك لو أوهمتهم بان شيئاً ما يتعارض مع الدين، فسيندفعون لمحاربته، دون أن يتوقفوا للتعقَّل و التدبَّر، والتيَّقن مما إذا كان معارضاً للدين أم لا ... واستغلال نقطة الضعف، فى حروب الجيل الرابع، هو استخدام استراتيجى طويل المدى، قوى التأثير، وهو يعتمد على خطوات بطيئة مؤثرة، وفقاً لنظرية يطلق عليها (Quite But Sure) ... وأوَّل ما استخدمته فى هذا المجال هو بث فكرة تعارض الانتماء للوطن مع الدين، فبهذا فصلوا التديَّن عن الوطن، واقنعوا المتطرفين بعدم الانتماء إلى أوطانهم، أو العمل من أجلها، او الدفاع عنها، حتى أنهم قد يسعون لهدمها بدلاً من ذلك، باعتبار أن وجودها يتعارض مع دينهم، والذى لا ينبغى لهم الانتماء لسواه ... لهذا تجد أن نشيد جماعة الإخوان مثلاً يحوى كلمات مثل "الإسلام وطنى لا وطن سواه” ... وشيوخ التطرَّف ينهون عن تحية العلم؛ باعتبار أن العلم رمز الدولة، وكلمة دولة تتعارض مع الدين، على الرغم من أنهم يرفعون أعلاماً أخرى، يرون أنها تعَّبر عن دولة الإسلام، وهى كيان وهمى يرون فيه كل وطن يسعون إليه ... هم إذن يريدون وطناً، على أن يكون وطنهم هم، وعلماً على أن يكون علمهم، ولا يرون اى تعارض فى فكرهم، لأن الذين سيطروا على أفكارهم لعبوا على نقطة ضعفهم، فوجهوهم إلى حيث يريدون، وأقنعوهم بأن الهجوم على أوطانهم هو نقطة قوة، وليس نقطة ضعف ... الهدف هنا هو تحويل تلك الفئة إلى خلايا مختلة، تهاجم الجسد الذى تنتمى إليه، باعتباره جسماً غريباً، دون حتى أن يدركوا أن انهيار الجسد يعنى انهيار كل أعضائه، حتى الخلايا التى تهاجمه !!... ولأن اللعب على نقطة الضعف استراتيجى المنهج، فهو ينتظر سنوات وسنوات، فى صبر شيطانى، حتى يبلغ هدفه المنشود، وهو دفع بعض المجتمع إلى السعى لتدمير بعضه الآخر، ممن ليست لديهم ميول متطرَّفة، وإقناعهم الهدم التام هو السبيل الأمثل؛ لإعادة البناء على نحو سليم، علماً بأن الهدم سريع وسهل، ولكن البناء بطئ وصعب، والأهم من هذا وذاك هو أنك بعد أن تهدم وطنك، لابد من أن تجد الوقت إعادة بنائه، فمن سيمنحك هذا الوقت عندما تهدم الكيان كله ؟!. خصومك أم أعداءك ؟!... حروب الجيل الرابع تسعى فقط للهدم، فإذا ما ساهمت أنت فى خطتها، وهدمت كيانك، فهم لن يسمحوا لك عندئذ بإعادة البناء، إلا وفق شروطهم الخاصة، وما يتناسب مع مصالحهم، فإما أن تقبل أو تحيا إلى الآن وسط كيان مهدَّم خرب، يستحيل العيش فيه ... هذا ما يعرف فى علم التنمية الذهنية، الذى شرفت بعض الوقت بتدريسه، بأسم إشكالية المنطق، عندما يقوم طرف ما بإدخال معلومات خاطئة إلى ذهنك، تصنع بالتالى منطقاً مختلاً، يبدو لك، عندما تقارنه بالمعلومات المدخلة، وكأنه منطق سليم، على الرغم من أنه ليس كذلك أبداً … فلو أنك أدخلت إلى الكمبيوتر معلومة، تقول: إن مجموع سبعة عشر زائد واحد وعشرين يساوى خمسة فقط، وجعلته يعتبرها معبومة أساسية، ثم طلبت منه طرح خمسة من سبعة عسر، فسيخبرك أن النتيجة هى واحد من عشرين وهى نتيجة منطقية، نسبة إلى المعلومات التى لديه، ولكنها غير منطقية أبداً، بالنسبة لعلم الرياضيات الأساسية، ولكن خلل المعلومات المدخلة، لابد وأن يؤدّى حتماً إلى خلل النتائج ... وخلل المنطق ليس أمرأً عسيراً، إذا ما قام به خبراء محنكون، درسوا سيكولوجية الشعوب، وعرفوا جيداً نقاط ضعفها، فكل ما علي...ك هو صياغة بعض الأمور على نحو جذاب، يمكنه إقناع أصحاب الخبرات القليلة والمعلومات الأقل، وغرسه فى أذهانهم فى عمق، بحيث يصير وكأنه حقائق لا تقبل الجدل، واستخدام خبراء فى هذا المجال، أو حتى علماء، ينتحلون صفات تخالف حقيقتهم، وتبث أهدافاً تخالف أهدافهم الفعلية .... نفس تلك الإشكالية المنطقية، هى ماتستخدمه حروب الجيل الرابع؛ لإعادة توجيه العقل، وتشكيل الفكر، على نحو يتعارض تماماً مع المنطق العام، دون أن يدرك من يتعاملون بالمنطق المختل أنهم مخطئون ... وفى إحدى عمليات التجسس الحديثة، عندما سقط جاسوس هام، فى قبضة المخابرات المصرية، أكَّد فى اعترافاته، أن الجاسوس المقيم، الذى كان ينقل إليه التعليمات، ويمنحه المكافآت والتمويل، كان شخصاً ملتحياً، يرتدى جلباباً أبيض قصيراً وعمامة، فى حين أنه يثق تمام الثقة فى أنه ليس حتى مسلم الديانة ... وهنا تكتمل أركان لعبة نقطة الضعف، فيكفى لأى جاسوس مقيم، وهو أرقى أنواع الجواسيس، والمسئول عن التعامل مع أية شبكة جاسوسية، فى المكان الذى يقيم فيه، أن يطلق لحيته، ويحفظ بعض الآيات القرأنية والأحاديث؛ لينال ثقة الشباب متطرَّف الفكر، ثم يستخدم ما درسه وتدرَّب عليه؛ لأعادة توصيف دلالات الآيات والأحاديث، بحيث تتخذ منحى يخالف حقيقتها، ولأن مظهره وأسلوب حديثه الهادئ المدروس، الذى تدرَّب عليه طويلاً، يلمس نقطة الضعف عند أولئك الشباب، الذين ربطوا المظهر بالدين، فهو يصنع منهم جنوداً مجندة لهدفه الفعلى، بحيث يستطيع توجيههم إلى حيث يشاء، وهم يتصوَّرون أنهم يقومون بأعمال بطولية، ويقاتلون فى سبيل الدين، وليس فى سبيل ما يسعى إليه هو، من نشر الفوضى فى المجتمع، وتقسيمه إلى فئات متحاربة ... الأهم هو أنك إذا ما شككت فى نوايا ذلك الملتحى الزائف، وحاولت كشف حقيقته، فسيهاجمك جميع الشباب الذين جندهم فى استماتة، وسيقاتلون من أجله، فقط لأنه أقنعهم - بهيئته وحدها - أنه رمز للدين الذى يدينون به ويقاتلون من أجله، وهذا بالضبط ما يجعل نقطة الضعف لديك هى مصدر قوة كبيرة ... للعدو...