كيف تبني دولة حديثة؟! سؤال أكاد أُجزم بأنه لم يدر بخلد العديدين، ممن سيقرأوا هذا المقال.. ربما لأننا -ومنذ قيام الثورة- انشغلنا بخلافات قادرة على هدم دولة، وليس حتى على بناء قرية صغيرة.. انشغلنا بالغضب.. والغل.. والانتقام.. والثأر.. والأخطر أننا قد انشغلنا بالسيطرة.. كل فصيل انشغل بكيف يُسيطر على الباقين.. وكيف يفرض عليهم إرادته.. وفكره.. وقواعده.. ورؤيته لكل الأمور.. كل فصيل رأى أنه الأحقّ بالسلطة.. والأكثر قدرة على وضع البلاد على خريطة العالم.. وكل ما شغل عقولنا هو الهدم.. والهدم.. والهدم.. وفي فترة من الفترات، انتشرت فكرة عجيبة، مفادها أنه من الضروري هدم البناء من قمته وحتى أساسه، حتى يمكن إعادة بنائه على نحو سليم.. وهي فكرة قد تبدو نظريا صحيحة، ولكنها في الواقع ليست كذلك! ودعني أستبعد رأيي الشخصي في هذا، وأعود إلى رأي كتبه منذ أكثر من سبعين قرنا، أحد أشهر وأقوى القادة العسكريين عبر التاريخ.. "صن تزو".. قائد عسكري صيني، عاش عام 555 قبل الميلاد، في مملكة تشينو في شرق آسيا، وكانت مملكة صغيرة، لا يزيد تعداد جيشها على ثلاثين ألف مقاتل.. في ذلك الزمن، كانت منطقة شرق آسيا تتكون من عدة ممالك، تتصارع فيما بينها، ويلتهم القوي فيها الضعيف، وتنقض فيها الممالك القوية على الممالك الضعيفة، وينكّل فيها المنتصر بالمهزوم، تنكيلا جعل الناس تعيش في خوف دائم من انقضاض الأكثر قوة عليها.. وكانت مشكلة مملكة تشينو، هي أن جيشها أقل عددا وبكثير من جيوش الممالك الأخرى.. فأقل مملكة أخرى، كان جيشها يتكوّن من مائتي ألف مقاتل.. ووسط كل هذا، وضع "صن تزو" نظرية عسكرية، كانت جديدة ورائدة في ذلك الزمن.. لقد وضع قواعد ما يُعرَف اليوم باسم "الجيش النظامي".. ولقد كانت نظرية "تزو" تعتمد على أن الفارق العددي ليس هو المقياس في ربح الحروب، ولكن التنظيم وحسن الإدارة هما المقياس الأساسي.. وبتجربة فريدة، أقنع "تزو" الملك بنظريته؛ فأوكل إليه قيادة جيشه، وتنظيمه، وحُسن تدريبه.. ونجحت نظرية "تزو" نجاحا مذهلا.. وخلال سنوات قليلة، نجح "تزو" -بجيشه النظامي- في أن يهزم الممالك المحيطة به، والتي يفوق جيشها جيشه بكثير، فقط بالتنظيم، وحسن التخطيط وإدارة الأمور.. ومع كل انتصار له، كسر "صن تزو" القواعد كلها.. إنه لم ينكل بالمهزومين قط.. فعلى العكس؛ لقد أحسن معاملتهم، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وعائلاتهم، وعرض عليهم -ولأول مرة في تاريخ المنطقة- أن ينضمّوا إلى جيشه، مقابل رواتب مجزية، أو يعودوا إلى بيوتهم آمنين.. ومع هذه السياسة التوافقية -التي بهرت الناس حينذاك- كبر جيش "تزو"، وتعاظم، وصار قوة هائلة، يخشاها شرق آسيا كله.. وخلال أكثر قليلا من عشر سنوات، حوّل "صن تزو" بسياسته الحكيمة وتنظيمه الدقيق، مملكة تشينو الصغيرة إلى إمبراطورية تشينا، أو الصين كما نعرفها الآن.. وبعد أن استقرّ به المقام، وضع "تزو" كتابه المعروف باسم "فن الحرب"، والذي كان وما زال دستورا لكل قائد عسكري في العالم، وعبر التاريخ الحديث كله، وحتى لحظة كتابة هذه السطور.. الحديث عن "صن تزو" كان مقدّمة ضرورية؛ لأنقل إليكم واحدة من أهم القواعد التي وضعها "تزو" في كتابه الأشهر "فن الحرب".. "لا تحاول هدم الكيان كله، بحجة إعادة بنائه؛ لأنك إن هدمته؛ فالموتى لا يعودون أبدا إلى الحياة".. هذا ما قاله "صن تزو" منذ أكثر من سبعين قرنا.. إن الهدم الكامل لا يمكن أن يصنع إعادة بناء سليمة.. والقاعدة لا تزال صحيحة، حتى وقتنا هذا.. بل إنها أكثر صحة في زمننا هذا.. فلو أنك هدمت الكيان كله؛ فمَن سيترك لك فرصة إعادة البناء مرة أخرى، وأنت محاط بأعداء وخصوم سيتهلّلون فرحا، عندما تهدم أنت كيانك بيديك، وسيرتاحون؛ لأنك قد أرحتهم من هَم كبير وجهد رهيب، كانوا سيبذلونه لهدم كيانك.. لقد هدمته أنت، وكأنك تعمل لحسابهم.. ولن يسمحوا لك بإعادة بنائه أبدا.. أبدا.. أبدا.. لكي نبني دولة إذن كان ينبغي ألا ننشغل فقط بالهدم.. بل بالترميم.. وبالبناء.. الزعيم نيلسون مانديلا فعلها في جنوب إفريقيا.. عندما صعد إلى مقعد السلطة، كان شعبه يحمل الكثير من الغضب، تجاه الجنس الأبيض الذي عامله طوال عقود كالعبيد.. شعب عانى.. وقاسى.. وتعذّب.. ثم نال حريته أخيرا.. مانديلا نفسه قضى زهرة عمره في السجون وراء القبضان؛ بسبب التفرقة العنصرية الرهيبة بين البيض والسود.. وعلى الرغم من هذا، فهو لم يسعَ قط للانتقام.. بل للمصالحة.. كان يُدرك أن شعبه سيسعى للانتقام من البيض الذين أذلّوه وعذّبوه كثيرا وطويلا.. ولكنه كان زعيما عظيما.. وبدلا من أن يعادي خصومه استلهم سياسة "صن تزو"، ولجأ إلى المصالحة الوطنية.. سعى إلى وطن واحد متماسك، وليس إلى شعب متصارع.. ونجح في هذا.. لقد اقتدى -دون حتى أن يدري- برسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه عندما فتح مكة، التي فيها مَن اضطهدوا أهله، وعذّبوهم، وآذوهم، وقتلوهم، وأخرجوا مَن بَقِي منهم من ديارهم.. بعد كل ما فعلوه، وجدهم يقفون أمامه مهزومين مدحورين أذلاء، فلم ينكّل بهم، أو حتى يعاقبهم على ما فعلوه، بل وقف شامخا، يقول في رحمة تفوق العدل: "اذهبوا.. فأنتم الطلقاء".. وربح الإسلام مَن دخلوا في دين الله عز وجل أفواجا.. هكذا يكون بناء الأمة.. وبناء الدولة.. ليس بالغضب.. ولا بالغل.. ولا بالهم.. ولا بالقهر.. ولا حتى بالانتقام.. بل بالتسامح.. والتوافق.. والمصالحة.. واحسبوها أنتم،،،