أحلم باليوم الذي أتخلص فيه من القيود وأستمتع بالحرية ، يداعبني الحلم في صحوي ونومي كلما اشتد إحساسي بالقهر والغليان . أشكو إلي الله في مناجاتي بطش المدرسين بنا .. وكتمهم لأنفاسنا طوال الحصص .. فحتي فترة الراحة القصيرة بين حصة وأخري نلام علي الاستجابة خلالها لطبيعتنا كأطفال في الحركة والصخب .. ويدخل إلينا مدرس الحصة التالية مكفهر الوجه , لينعي علينا سوء أخلاقنا وعدم التزامنا بما ينبغي للتلميذ النجيب الالتزام به , من الهدوء الكامل والجمود التام في النقعد إلي أن يحل موعد الدرس الجديد .. أتساءل بيني وبين نفسي عما أضر الحياة من حركتنا داخل الفصل خلال فترة الراحة القصيرة , فلا أجد جوابا مقنعا , ويظل الاحساس بالذنب , لعجزنا عن الوصول إلي الدرجة المأمولة من الأدب , مستمرا ومنغصا ، يسألنا مدرس الدين الشيخ محمود عن نواقض الوضوء , فترتفع الأيدي تتباري في طلب الانتباه وإثبات الذات .. وأرفع يدي علي استحياء فيشير إلي المدرس وأقف في ثقة وأقول : اللعب في التراب ! وبدلا من أن يعجب الشيخ المدرس بإجابتي المنطقية يسخر مني سخرية مريرة ويبشرني بمستقبل مظلم .. وأجلس وعقلي الصغير يتساءل : إذا لم يكن اللعب في التراب يفسد الوضوء فلماذا ينهانا عنه الكبار بصرامة .. ؟! ثم أنزعج بشدة حين أري مدرس الدين بعد أيام يزور أبي ليتحدث إليه في أمور عادية , لكنه ما أن يراني بالمصادفة حتي يشير إلي قائلا لأبي في دعابة سمجة : إنني لن أفلح في الدراسة ! فأغتنم للعبارة وأشعر بالخجل .. وأنتظر أن يحقق معي أبي في أسباب هذه النبوءة المتشائمة .. لكنه لدهشتي لا يلقي إلي الأمر بالا ً ولا يحدثني فيه أبدا , وتمضي الأيام والأسابيع بطيئة وثقيلة وأؤدي امتحان آخر العام وصدي النذير الذي أنذرني به الشيخ محمود يتردد في أذني فيرجف له قلبي . وتظهر النتيجة فإذا بي من الناجحين بل ومن المتفوقين , وأشعر بشيء من الشماتة فيمن تنبأ لي بالفشل , وأتمني لو أذهب إليه وأبلغه نجاحي وتفوقي بلهجة التحدي والفوز .. لكن هيهات أن أجد الشجاعة اللازمة لذلك , فتظل الغصة في النفس لاتجد من يداويها ! وأفرج عن مشاعري المكبوتة في الخيال الخصب الذي لا تحده الحدود , وأري نفسي في حلم من أحلام اليقظة قد ذهبت إلي هذا المدرس ووقفت أمامه شامخا , وأنهيت إليه خبر نجاحي وتفوقي , وقلت له بنفس اللهجة الساخرة التي انتقدني بها في حصته : أرأيت أني لست من الفاشلين؟ وأفعل ذلك في الخيال أكثر من مرة فأشعر بشيء من الارتياح .. لكن الحلم الأكبر يظل ملحا علي الدوام , وهو أن أتحرر من مذلة المدرسة الابتدائية , وأنتقل إلي المدرسة الثانوية التي يروي لي عنها شقيقي الأكبر الأعاجيب , فالطلاب فيها كما يقول من الرجال وليسوا من الصغار مهدري الكرامة مثلنا , ولا يجرؤ مدرس مهما علا قدره علي أن يمس طالبا بكلمة أو إشارة تسيء إليه , ناهيك عن لمسة باليد أو بالعص .. ومن يخطيء منهم أي من المدرسين ويتجاوز حدوده مع أي طالب ينال جزاءه علي الفور من الطالب باللكم والضرب المهين وجذب ربطة العنق .. ولايكون عقاب الطالب بعد كل ذلك سوي الفصل لمدة يومين أو ثلاثة من المدرسة ! فأي أشاوس أبطال هؤلاء الطلاب الميامين .. وما أبعد الفارق بين عزهم .. وذلنا ! وكيف يجرؤ أحد علي المساس بهم وهم الذين يهدرون كل يومين أو ثلاثة بصيحات الغضب والاحتجاج في مظاهرات صاخبة ضد الانجليز المحتلين .. والحكومات الضعيفة التي تمالئهم .. ومتي يتحرر الأرقاء من أمثالنا من أسرهم , وينتقلون إلي دنيا الكرامة .. والأمان .. وتقوم ثورة يوليو قبل أن يتحقق الحلم العسير .. ويسقط الملك ويتغير العهد .. ويجيء اليوم الموعود , فأنتقل إلي السنة الأولي الثانوية .. وأستقبل حياة العزة والكرامة بقلب يخفق بالأمل .. وتمضي الأيام فلا أري مدرسا يرتجف ينظر إليه طالب نظرة نارية فيتجمد الدم في عروقه كما حكي لي .. وإنما أري نفس التطاول من المدرسين .. ونفس القهر الذي عانينا منه في مدرسة الصغار .. وأري الجميع يتملقون مدرسيهم , ويخشون عقابهم , كما كنا نفعل في مدرسة الصغار .. وأكتشف , بعد فوات الأوان , أن القهر هو القهر في مدارس الصغار والكبار علي السواء وأنه لا كرامة لطالب ولا أمان إلا في الجامعة , كما يروي لنا الكبار العائدون إلي المدينة في أجازة الصيف من كلياتهم ! وتتطلع النفس إلي أمل جديد ترجو ألا يكون من أحلام اليقظة .. كما كان الأمل القديم في المدرسة الثانوية ! أقرأ أيضاً : الحكاية الثامنة والعشرين .. البحث عن السعادة !