خيال الأطفال يتسم دائماً بالجموح .. والقوة الجسدية تلوح للجميع كحلم سعيد بعيد المنال .. من ناله فقد نال المهابة والجلال ! وفى جلساتنا فى الشارع القديم يتبارى البعض فى إلهاب خيالنا بما يحكونه عن قدرات خارقة للآخرين، ويحسم البعض مساجلاتنا دائما بإعلان أن "الملك" وكنا فى عصر الملكية يستطيع أن يفعل ما يعجز عنه الجميع من معجزات، فيستطيع أن يعبر النيل من ضفته الشرقية إلى ضفته الغربية فى قفزة واحدة، ويستطيع أن يلتهم وحده خروفا مشويا، وأن يرفع سيارة بيده اليمنى وحدها .. والجميع يصدقون وينبهرون! ولا عجب فى ذلك ولا اعتراض، فهو "الملك" الذى يحكم البلاد والقادر وحده على كل ما يعجز خيالنا عن تصوره، ولو لم يكن كذلك لما استحق عرش البلاد، ولا فاز فى تقديرنا باحترام الآخرين! ويشطح الخيال بأحدنا فيروى لنا أنه قد ظهر رجل فى مدينة مجاورة يطير بغير جناحين ويحط حيث يشاء، ويروى لنا آخر معركة يقسم أنه شاهدها بعينيه في سوق المدينة , كال فيها أحد الرجل العظام اللكمات المزلزلة لعشرة من الأشرار حاولوا الاعتداء عليه , فتصدي لهم وحده وصعقهم بضرباته المروعة ... حتي أرداهم جميعا أرضا وجلس إلي مقعده في المقهي , يدخن " شيشته " مطمئنا ً... ويرقب سيارة الإسعاف وهي تنقل ضحاياه للمستشفي لمعالجتهم من جراحهم ! . ويشتعل خيالي بهذه البطولة الخارقة وأقسم علي من روي لي قصتها بأن يصطحبني معه لرؤية هذا البطل المغوار الذي ينبغي له أن يكون المثل الأعلي لأمثالنا من الضعفاء ... ويتردد الراوي طويلا في الاستجابة , غير أنه يقبل في النهاية , ويقودني إلي مقهي بالشارع الرئيسي للمدينة , ويشير إلي أحد الجالسين فيه ويقول : إنه هو الفتوة الذي أردي من اعترضوا طريقه ... وأنظر ... فأري رجلا نحيلا طويلا يرتدي جلبابا مقلما , ويصفف شعره ب " البريانتين " ولاتبدو عليه سمات القوة أوالمهابة , لكن أسطورة البطولة تطغي علي كل الشكوك ... ومن ذلك اليوم أضعه بالرغم من ضعفة الجسماني الظاهر في مكان مرموق في خيالي , وأدعو في صلاتي أن يهبني الله بعض قوته لأستخدمها في الدفاع عن نفسي عند الحاجة , وفي نصرة الضعفاء ضد المعتدين , وأعاهد النفس إن استجاب الله لدعائي الملهوف ألا أستخدام قوتي إلا في الخير ... غير أن الأيام تمضي دون أن يبدو أي أثر للاستجابة لهذا الابتهال الحار , ثم أمر يوما بالمقهي فأري للدهشة " البطل " جالسا على الأرض واضعاً يده علي جنبه الأيسر ، ويبكى مولولاً ومن حوله بعض الرجال يطالبونه بالتماسك ويعيبون عليه هذا النواح الخليق بالنساء ! وأقترب من الجمع محاولاً فهم ما جرى للبطل ، فأسمع أحد الواقفين يقول فى استياء : إنه ولد " خرع " .. يبكى لبعض المغص الذى ألم به ! وتتلقى أسطورة البطولة فى خيالى ضربة قاصمة ، وتضيع آمالى فى اكتساب بعض قوة " المثل الأعلى " لتكون عدتى يوم يكون النزال ! . وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الحادية عشرة ... المهرجان ! الحكاية الثانية عشرة ... الحرية ! الحكاية الثالثة عشرة ... الحذاء !