سمعنا ذات يوم ونحن نلعب ألعابنا المعتادة بالشارع دوي الزغاريد ينطلق من أحد البيوت .. ترقبنا البهجة الوشيكة التي سنستمتع بكل فصولها بعد قليل .. وشهدنا في أيام متوالية الفتاة الموعودة بالسعادة وهي تغادر بيتها مع والدتها , ثم وهما ترجعان محملتين بالمشتريات وقطع القماش .. ويستقبل شارعنا ضيوفا جددا عليه , هم العريس وأفراد أسرته في زيارات معلومة تتخللها زغاريد البهجة والانشراح .. ثم يأتي أحد الأيام الواعدة بالبهجة ونعرف أن أسرة العروس سوف تنقل أثاث العروس اليوم الي عش الزوجية .. فإذا كانت من ذوي اليسار فلسوف ينقل أثاثها وجهازها في موكب من عربات النقل المكشوفة التي ترص فوقها قطع الأثاث وكل مستلزمات البيت , من المفروشات حتي صينية " القلل " ولو تطلب الأمر توزيع كل قطعتين من الأثاث علي عربة ليكتمل الموكب .. وفي أصيل أحد الأيام سوف نشهد الركب يمضي في الشارع الرئيسي للمدينة تتقدمه فوقة الموسيقي النحاسية في صفين ويتوسطها قائد الفرقة عازف الكلارنيت .. ولسوف نعجب كثيرا حين نري بين أفراد الفرقة العشرة عددا من الحرافيش والصياع الذين لا عمل لهم ولم نعرف عنهم من قبل سابق صلة بالموسيقي .. لكن عجبنا يزول فيما بعد مع التقدم في العمر حين نعرف أن العازفين الحقيقين في مثل هذه الفرقة لم يكن يزيد عددهم عادة عن أربعة أو خمسة هم الذين يحملون آلات موسيقية حقيقية ويتولون العزف طوال الزفة , أما الباقون فقد استأجرهم صاحب " الفرقة " لقاء 5 قروش , وطلب من كل منهم ارتداء الزي الموحد للفرقة بلونه الكاكي وشرائطه الحمراء علي ساقي البنطلو ن, ثم سلمه آلة نحاسية كبيرة معطلة أو مسدودة وطلب منه التظاهر بالنفخ فيها طوال الموكب لكي يكتمل للفرقة مظهرها الكريم .. ومن هذه النقطة ولد التعبير الشهير الي يطلق علي من يتظاهر بالعمل ولا يعمل فيقال عنه إنه " لابس مزيكة " !. وسواء أكان عدد العازفين الحقيقيين أربعة أم عشرة , فلسوف نصاحب نحن الفرقة سعداء بموسيقاها الجميلة , التي عرفنا فيما بعد أنها مسوخ مشوهة لمقطوعات عالمية ل" موزار " و" باخ " و" بيتهوفن " توارثها أصحاب هذه الفرق عن آبائهم وجدودهم , وأضاف كل جيل منهم إليها مزيدا من النشاز والتشويه حتي لم تعد تربطها بأصلها صلة .. ومن حين لآخر تتوقف الفرقة أمام أحد المقاهي المطلة علي الشارع الرئيسى ويستدير قائدها ناحية المقهي فيتبعه بقية أفرادها .. ويقومون بعزف سلام " محمد شايل سيفه " تحية لصاحب المقهي ورواده .. ثم يواصل الموكب السعيد مسيرته إلي غايته المنشودة , ولكم كان يسعدنا أن تتوقف الفرقة أمام مقهي عثمان الذي يقع علي رأس شارعنا وتعزف تحيتها للمقهي وصاحبه ورواده , فنشعر نحن بأن التحية تشملنا أيضا باعتبارنا من أبناء هذا الشارع المجيد الذي تحييه الفرقة الكبري في المواكب السعيدة . وبعد أن يجول الموكب جولته ينتهي به المطاف إلي بيت الزوجية , فتنزل السيارات حمولاتها وتختتم الفرقة الموسيقية جهادها مع آلاتها الخربة بعزف السلام الملكي القديم , الذي عرفنا أيضا فيما بعد أنه جزء من أوبرا عايدة للموسيقار " فردي " . ثم يكون هذا الموكب بشيرا بقرب البهجة الكبري بعد يومين أو ثلاثة علي الأكثر , إذ نصحو من نومنا ذات يوم فنجد عمال الفراشة ينشطون في إقامة سرادق في عرض الشارع , ورفع الرايات الخضراء التي تمثل العلم المصري القديم عليه , وتعليق الأنوار والزينات , ورص المقاعد في صفوف متوالية علي غرار مقاعد المسرح , ثم إقامة المنصة التي ستجلس عليها العروس والفرقة الفنية التي ستحيي ليلة الحنة , وهي الليلة التي تسبق الزفاف , وتحتفل بها أسرة العروس في بيتها , ويحتفل بها العريس في بيته . وفي الموعد المرتقب يمتليء السرادق بالمدعوين .. ونبحث نحن لأنفسنا عن موطيء قدم فيه .. ثم تهل العروس هابطة من بيتها محاطة بصديقاتها المخلصات وهي ترتدي فستانا فزدقي اللون أو ورديا أو بنفسجيا , ثم تجلس في المقعد المخصص لها فوق المنصة , وتبدأ فرقة العوالم الشهيرة عملها , ونحن في نشوة بالغة , فتغني " الأسطي طعمة " صاحبة الفرقة ونجمتها المخضرمة , ويغني زوجها عازف البيانو القديم " محمود المزوق " , ولا أدري هل هذا هو اسمه الحقيقي أن أنه قد اكتسبه من حبه للوجاهة وشعره الأسود اللامع بالفازلين؟ ! وترقص الأسطي " نجية " الاسكندرانية وتغني .. ويلقي " عبدالباعث " بفكاهاته ومونولوجاته . . وفي غمار هذه النشوة الطاغية نفاجأ بتوقف الموسيقي ومغادرة العروس للمنصة .. ونتساءل في انزعاج عن السبب , فيجيبنا أهل الخبرة بأن العروس لا بد لها من أن ترتدي في حفل ليلة الحنة ثلاث فساتين تستعرض بها ذوقها وأناقتها وقدرتها المالية , ولهذا فقد غادرت الحفل لتغير فستانها وسف ترجع بعد قليل , وتتحقق النبوءة بالفعل .. ويستأنف الحفل من جديد , وتمضي الليلة كلها في بهجة خالصة حتي الثانية صباحا أو تزيد . وفي مساء اليوم التالي يتكرر الحفل ويبدأ في نفس موعده في الثامنة مساء , لكننا نلاحظ أن مقعدا خاليا جديدا قد أضيف إلي جوار مقعد العروس .. ونلاحظ أيضا بأسي شديد أن الفرقة الفنية لا تخلص للغناء والرقص كما ينبغي لها أن تفعل , وإنما تنشغل بجمع النقوط أكثر من انشغالها بالغناء , وكأنما تسابق الوقت قبل انتهاء المناسبة , ثم يشتعل السرادق بالزغاريد فجأة , وبنبهنا ذوو الخبرة السابقة إلي أن هذه إشارة مؤكدة لوصول العريس إلي الشارع وسط هالة من الأصدقاء والأحباب .. ثم لا نلبث أن نسمع هتافا مدويا من الأصدقاء والأحباء يحيون به صديقهم قائلين : يحيا العريس .. ويتردد الهتاف الصاخب بحياة العريس كأنه زعيم سياسي أو قائد راجع من معركة مظفرة .. ويشق الشاب الموعود بالسعادة طريقه إلي المنصة ليشغل المقعد الخالي إلي جوار عروسه .. فلا تنظر هي ناحيته ولا ترفع إليه بصرها , وتظل الطرحة مسدلة علي وجهها طوال فترة جلوسه إلي جوارها .. ويزداد نشاط الفرقة الفنية في جمع النقوط قبل أن ينفض الحفل الذي يعرفون جيدا أنه لن يطول كليلة الأمس , ونحزن نحن لان الغناء يتوقف كل جملة وأخري لتعلن العالمة عن تحية أحد المدعوين للعريس أو أسرة العريس , ونأمل أن تهدأ هوجة النقوط بعد قليل لكي نستمتع نحن بالغناء والرقص والمونولوجات .. فتفاجأ بالعريس بعد نصف ساعة علي الأكثر من وصوله وهو ينهض واقفا , ويدعو عروسه للتحرك فلا تستجيب لدعوته من أول مرة , وتصعد والدتها أو شقيقتها للمنصة وتقيمها من مقعدها كأنما لوتركت لنفسها لما نهضت ! ثم تأخذ بذراعها وتشبكها في ذراع العريس الذي يمضي شامخا بين زحام المدعوين إلي طريق الهناء مشيعا بالزغاريد ودقات الدفوف ! وينفض الفرح ولما تتعد الساعة بعد العاشرة والنصف أو الحادية عشرة مساء , ويبدأ العمال في هدم السرادق وإطفاء الأنوار وإنزال الزينات .. ونحن نتحسر علي البهجة التي اختزلت .. والفرحة التي وئدت قبل الأوان , ونرجع إلي بيوتنا ونحن نتساءل في مرارة : لماذا تقصر أوقات البهجة دائما في الحياة , وتطول أوقات الأحزان؟ ! وأقرأ أيضاً : اللقاء الأخير ! الحكاية الأولى .. الانحناء ! الحكاية الثانية .. أيام السعادة ! الحكاية الثالثة .. الاحتفال ! الحكاية الرابعة .. التواصل عن بعد ! الحكاية الخامسة .. شيء من الألم ! الحكاية السادسة ... الانتقام ! الحكاية السابعة .. فليكن ! الحكاية الثامنة ... الحب في شارعنا ( 1 ) !