كان أبي يخطو نحو الستين من عمره المديد.. كان شيخا وقورا ناضجا. وكنت أحبو نحو العاشرة من عمري.. كنت مدركا.. منتبها لما يدور حولي. كان أبي صائما كعادته التي بدأها مبكرا وهو في التاسعة من عمره، حتي وفاته صائما، متوضئا، متأهبا لصلاة لم يحن وقتها بعد. وكنت صائما " نص يوم " ينتهي عند أذان العصر، كما أقنعتني بذلك والدتي مراعاة لجسدي النحيل. كنت قد أمضيت ليلي في منزل ابن عمي العريس، الذي كان مجندا في القوات المسلحة، وسمحوا له بإجازة زواج قصيرة انتهت يوم الخامس من اكتوبر.. أمضيت ليلة التاسع من شهر رمضان المعظم مع عروس في أسبوع زواجها الأول، لطمأنتها في ظرف غياب زوجها الذي تم استدعاؤه، أستوعب الآن أن ذلك تم في سرية، ولم يكن هناك أي شيء يشير إلي أن تلك الليلة، ليلة التاسع من شهر رمضان، ستكون ليلة فارقة في تاريخ مصر.. في طريق استعادة عزتها وكرامتها، التي اغتيلت في معركة استدرجنا إليها، شابها كثير من الغموض وكثير من التراخي. ليلة التاسع من أكتوبر كانت بمثابة، ليلة سيتبين بعدها الخيط الأبيض من الخيط الأسود في تاريخ مصر والمنطقة بأسرها. و ستكون هي آخر ليلة حزينة في تاريخ مصر السياسي بل والاجتماعي . أتصور أنها حملت بعض صفات ليلة القدر التي ترقبناها طويلاً.. وأنها بشرت بالليلة المباركة.. هي بحق ليلة صدق الله العظيم أن وصفها رب العزة بأنها .. خير من ألف شهر.. تتنزل فيها الملائكة والروح من كل أمر... ستشهد نصرة مصر والعرب .. بعد مطلع الفجر. علي المستوي الشخصي، كنت حزيناً لسفر ابن عمي - العريس- تاركاً عروسه بعد أقل من خمسة أيام من الزفاف، وذهابه إلي مكان غير معلوم.. ولم نكن ندري وقتها أننا سوف نحسده علي مهمته المقدسة التي ترك بسببها فراش الزوجية ليسترد كامل تراب وطنه. فقط كل ما أتذكره أننا ودعناه وهو يستقل قطاره.. إلي أين ؟ الله أعلم !! ذهبت مع عروس ابن عمي عند الظهيرة إلي منزلنا.. حيث والدي ووالدتي وأشقائي .. كل شيء يسير علي ما يرام .. العمل علي قدم وساق لتحضير وجبة الإفطار .. إفطار رمضان الكريم.. افطار العاشر من رمضان المقدس.. الكل.. كل من في البيت يعمل .. الكل له دور.. الصحيح أن الكل يؤدي دوره بشكل روتيني، ولكن نفحات الشهر الكريم تجعل لكل عمل معني، ولكل معني ذكري، ولكل ذكري متعة .. ولكل متعة ذكري وطعماً ومعني. حتي وإن كانت القلوب تفتقد البهجة .. ولكن أليست أيام وليالي رمضان في حد ذاتها تشكل متعة للقلب، وبشارة للنفس.. وسكينة للروح ؟ أعود من حيث بدأت.. إلي أبي.. الذي كان يقرأ القرآن .. وهي أكثر صورة شاهدت عليها أبي في أعوامه الثمانين.. إما تلاوة القرآن الكريم أو الصلاة.. فجأة ..علا الضجيج.. اختلطت الأصوات.. وعلي الرغم من أن صبياً في مثل عمري يمكن أن يفزعه مثل هذا الأمر، إلا أنني لم أشعر بالخوف، ربما شعرت بالرهبة، ولكن شيئاً ما جعل التفاؤل والبشري يتسللان إلي مشاعري.. شيء ما كأني كنت أنتظره رغم حداثة سني، فلم يكن هناك بيت في مصر .. ولا شاب ولا طفل لم يكن يتحدث وقتها عن معركة الشرف المنتظرة، المؤجلة بدهاء القائد المصري، شيء ما تم بثه عبر جهاز "الراديو" الخشبي الضخم الذي يتصدر قائمة (الأهم) في حياة أسرة مصرية بسيطة ..