لازلت أحن إليها حنين طفل إلي أمه، مسكونة أنا بشوارعها، بصخبها، بذكرياتي فيها في سنوات الطفولة والصبا. رغم مرور عشر سنوات علي مغادرتي لشبرا، وانتقالي مع أسرتي إلي حي آخر، أذهب إليها كلما هزني الحنين لأماكن بعينها، هي مكان له طبيعة خاصة، فهي تجمع تقريبا كل طبقات المجتمع وطوائفه من مسيحيين ومسلمين، هي أقرب ما تكون لتركيبة الأحياء الكوزموبوليتان في تعدديتها. أسير فيها فأستعيد زمنا جميلا مضي، أمر علي مدرستي الابتدائية فأراني طفلة عنيدة بضفيرتين جميلتين، تجلس في ركن قصي من الفصل، تخفي خجلها بافتعال الشراسة والعنف خاصة مع الأولاد الذين يتمنون الاقتراب منها ويخشونها في الوقت نفسه. أمر أيضا علي فردوسي المفقود - بيتنا القديم - كما يحلو لي أن أسميه دائما، ربما لأنه مازال أكثر الأماكن التي يلح عليها اللاوعي كثيرا في أحلامي، هناك عشت، حيث جيراننا الاقباط يشاركوننا كل شيء. حتي الاعياد كانوا يحتفلون بها معنا، وما زلت أذكر كيف كان أصدقائي من الأقباط ونحن صغار يصومون معنا في رمضان وأنا بدوري كنت أحيانا أذهب معهم للكنيسة حتي لا نفترق، ولم يكن أبي أو أمي يعترضان علي ذلك. يندر أن يسألني أحد في شبرا كما يحدث الآن: هل أنتِ مسيحية لمجرد أنني لا أرتدي الحجاب، تعلمت هناك التسامح وقبول فكرة التعددية، فوجدتني الآن أنبذ التعصب بكل أشكاله. هناك أيضا تعلقت مثل جيراننا الاقباط بحب السينما. وكثيرا ما كانوا يترجون أبي كي يوافق علي ذهابي معهم إليها بعد إلحاح مني، وكان يرفض عادة في البداية ثم يستسلم أمام دموعي التي لايحتملها. وكنت أدرك وقتها أنها نقطة ضعفه، ربما لانني كنت ابنته الوحيدة. أذكر أنني عندما كنت في العاشرة من عمري حرضت أبناء جيراننا الأقباط وأخوتي الذين يكبرونني بأعوام قليلة علي الذهاب إلي السينما التي كانت قريبة من البيت، بعد انتهاء اليوم الدراسي، لأنها تعرض فيلما جديدا لأحمد زكي. وقتها كنت مهووسة به ، مفتونة بأدائه، كان يمتلك عينين حادتين وعميقتين في الوقت نفسه، أظل أسيرة لهما حتي بعد أن أخرج من العرض،أظنه كان السبب فيما بعد في افتتاني بالرجال ذوي البشرة السمراء. طبعا كل الاولاد بما فيهم أخوتي عوقبوا علي ذهابهم إلي السينما دون استئذان الأهل، فيما عدا أنا ، بكيت ببراءة - كعادتي - أمام أبي الطيب وأقنعته بطريقتي وبشرّ طفولي أنهم هم الذين أجبروني علي الذهاب ، كل هذا وسط ذهول أخوتي الذين انتقموا مني فيما بعد. في نهاية شارعنا سأرفع عيني علي بيت الشاعر الذي كان شابا في العشرين حينما كنت طفلة.أظنه هجره الآن، جرني دون أن يدري إلي طريق الشعر، أتذكر جنونه ونرجسيته، ورغبته العجيبة في السخرية من كل شيء، علمت من أخي أن حبيبته الأولي خانته فصار كافرا بكل شيء، فلم يعد يعرف سوي السخرية والانتقام من الفتيات، كان يحب أخي ويراه تلميذه النجيب رغم فارق السن بينهما، ويعطيه كتبا في الشعر والسياسة ويتعامل معه كصديق، وأنا طبعا كنت في الخفاء أقرأ كل الكتب التي يأخذها أخي منه ويهرّبها بعيدا عن عيون أبي وأمي، لا أدري الآن أين ذهب هذا الشاعر الذي أحبته صديقتي الوحيدة وكانت تخاصمني أياما من أجله إذا هاجمته.