"أهلا وسهلا يا سيدي، هي ناموسية حضرتك كحلي!؟، ولما لم يجد ردا مني تساءل متحديا هذه المرة: وحضرتك إن شاء الله صايم ولا فاطر؟، وكأنني وجدت طوق النجاة أجبت: صايم والله العظيم، فقال: وريني لسانك، وبسرعة لا تردد فيها فتحت فمي وأخرجت لساني ليتأكد من صدقي، ثم قال لي: اجري علي فصلك وإياك تتأخر مرة ثانية". كان ذلك هو الحوار الذي دار بين المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد والأستاذ عبده أسعد، مدير وصاحب المدرسة الابتدائية، التي التحق بها أبوزيد، وكان سبب تأخره عن المدرسة هو صيامه لأول مرة في حياته، يحكي لنا أبوزيد في كتابه "الخطاب والتأويل" (الصادر عن المركز الثقافي العربي عام1992): من الذكريات التي لا تنسي، ذلك اليوم الذي ذهبت فيه متأخرا إلي المدرسة، كان ذلك اليوم هو أول أيام شهر رمضان، والذي بدأت فيه تجربتي مع الصيام، أثناء العام الأول في المدرسة (العام الدراسي1951-1952)، كنت قد سهرت الليلة السابقة حتي موعد السحور خشية ألا يوقظني أحد، لأن الأهل كانوا عادة ما يشفقون علي الأبناء من الصيام في سن مبكرة، استيقظت متأخرا، وحين وصلت المدرسة كان الباب قد أغلق، ولكني لم أقنع من الغنيمة بالإياب، وفوجئت بالأستاذ عبده شخصيا يفتح الباب، فأصابني هلع أخرس لساني". والعكس هو ما حدث مع الناقد الدكتور محمد عبد المطلب، فقد بدأ صيام شهر رمضان وعمره ست سنوات، بناء علي رغبة والده، الذي اتسم بالتشدد في أمور الدين، فكان يوقظ الطفل محمد لمصاحبته في صلاة الفجر وهو في هذه السن الصغيرة، ويوقظه من قبلها في الثانية ليلا لتناول طبق الفول علي السحور، وكان محمد عبد المطلب يتألم من ذلك، وإن حدث الصيام بالتدريج، ففي العام الأول صام حتي الظهر، وفي العام الثاني صام حتي العصر، وفي العام الثالث صام اليوم كاملا. ويتذكر عبد المطلب معنا حادثة لا تنسي ويقول: كنت أسير مع أحد أصدقائي، الذي لا يزال حيا يرزق، في يوم شديد الحرارة، وكان هناك قصر لأحد البكوات بالمنصورة مزود بحديقة فيها خرطوم تتدفق منه المياه، فدخلنا الحديقة في الثانية ظهرا، وشربنا أنا وصديقي، ولكن لسوء الحظ كان والد هذا الصديق خلفنا ولا نراه، وشاهدنا ونحن نشرب وكان شديد الورع، وظل مخاصمنا طوال شهر رمضان عقابا علي إفطارنا نهارا. ويتذكر أيضا أنه: ذات يوم كنا نجلس جميعا أمام موائد الإفطار وفجأة سمعنا الأذان يؤذن بصوت جميل وكانت الكهرباء مقطوعة وكنا نعتمد علي أذان الراديو، ولكن المؤذن قال ضحكت عليكم باقي عشر دقائق علي انطلاق مدفع الإفطار فكان علينا إعادة صيام هذا اليوم بعد رمضان. ولأنه كان طفلا، كجميع الأطفال، فقد اشترك مع صديق له في إحضار (نشوق) ونفخه في القاعة الممتلئة بكبار رجال المدينة وأعيانها في حفل خيري كانت تقيمه خالة أحد الأصدقاء الأثرياء، وبعد أن فعلوا فعلتهم، انطلقوا جريا في شوارع المدينة حتي لا يلحق بهم أحد ويعاقبهم إثر ما أصاب الحضور من كحة وسعال ودوار. وإذا كان الناقد محمد عبد المطلب قد وجد من يعاقبه علي شربه للماء في نهار رمضان، فإن الشاعر محمد سليمان لم يجد من يعاقبه، يقول: "لقد صمت رمضان وأنا في قريتي بمحافظة المنوفية وعمري 8 سنوات وفي أيام الصيف الشديدة الحرارة كنت اختفي فوق سطوح المنزل وآكل وأشرب وكان جدي يضبطني متلبسا، لكنه يهوّن علي الأمر قائلا : إنت ناسي وطالما سهوت فصيامك صحيح، وبالرغم من الفقر المنتشر في القرية إلا أنه كان هناك نوع من الزيارات العائلية والتكافل بين الناس عكس عالم المدينة المتشظي، وكنت وأنا صغير أحمل الطبلة للمسحراتي الذي كان يجوب شوارع القرية لمدة ساعتين كل ليلة، أما اليوم فقد اختفي المسحراتي بفضل ثورة الاتصالات. واتسم أهل الكاتب قاسم مسعد عليوة المقيمين ببورسعيد بالرأفة نفسها، فقد كانوا يسمحون له ولإخوته بالإفطار أيام الحر الشديد، بل إن أهله أرسلوه ذات يوم لشراء الكنافة قبل الإفطار، وفي طريق عودته تناول ثلاثة أرباعها، رغم أنه كان صائما، لكنهم لم يعنفوه، بل طلبوا منه أن يكمل اليوم صائما. عليوة صام رمضان وهو في سن السابعة، وكان يصطحب معه إلي المدرسة شنطة بها قبقاب خشبي وفوطة لكي يتوضأ ويصلي بالمدرسة، وكان ممن يحظون بالأحجبة التي توزع بعد صلاة الجمعة الأخيرة في شهر رمضان، وكانت تحتوي علي السبع آيات المنجيات، وبعض الأدعية التي تحفظ الإنسان من الشرور والحسد، وذلك في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وهي الظاهرة التي اختفت اليوم. وكان المسحراتي يعرف الأطفال بالاسم، فيرافقه قاسم وغيره من الأطفال في جولاته بالمدينة، وحينما يصبح العيد يمر المسحراتي علي البيوت ليحصل علي العيدية وأطباق الكعك والبسكويت، جامعا غنيمته في عربة صغيرة يدفعها أمامه، كما كان هو وأقرانه الأطفال يتجولون بالمدينة علي عربة يجرها حمار أو حمارين، وكانوا يسألون زملائهم الذين يركبون العربات الأخري، إذا ما كان حمارهم يلف المدينة بكاملها أم يقتصر علي بعض الشوارع القصيرة، وعندئذ يهتفون: البكاش أهو.. البكاش أهو.