غسان حمدان يُخبرنا عميد الرواية العربية، نجيب محفوظ، في روايته »حضرة المُحترم» أن »اللانهائية هي ما ينشد الإنسان»، عبارة مُلغزة، حيث أية لانهاية كان يقصدها؟ هل هي التطلع الطبيعي للإنسان لكي يرضي غروره، أو طموحه المشروع في الحياة؟ هل هي المحاولات المستميتة لتسلق الهراركية، والوصول إلي القمة؟ أم أن اللانهائية هي مرادف – بشكل ما أو بآخر- للمثالية، وعندها يكون لدي الفرد الحق في اكتساب مشروعية السعي نحو اللانهائية، ولكن دون الحيلولة لإدراكها. وبتعادلية هذا الأمر بينه وبين فعل وعملية الترجمة، فهل يُمكن القول بأنّ اللانهائية، أو الكمال، أو المثالية هي ما ينشده المُترجم من وراء ترجمته للنص، حتي لو كان النص قد تُرجِم سلفًا؟ يقول شيخ المُترجمين العرب، الدكتور محمد عناني، أن المُترجم هو كاتب، يُعيد صياغة الأفكار داخل قالب الكلمة، ومن ثمّ توجيه إلي قاريء، ولكن –بطبيعة الحال- لابد أن تنبثق اختلافية شديدة بين الكاتب الأصلي للنص الذي يستهدف مفردات حية، قد تسربت داخل وعيه من خلال مراقبته المستمرة لمجتمعه، وبين المُترجم الذي يُعيد تشكيل هذه المفردات طبقًا لحالة اللغة التي يُترجم إليها؛ لكي تتوافق مع الروح، وأطر الثقافة، فإما أن تٌضيف جديدًا، أو تتضافر في تكاملية مع القيم والعادات. وبالتالي، ترجمة العمل الواحد عِدة مرات، لابد أن يكون مُختلفًا، فهو محصلة تلاقي افتراضي، وكذلك غير آني ومكاني، بين أفكار المؤلف، وأيدولوجية المُترجم، ومدي فهمه للنص، واستيعابه لمعطيات المفردات، ومدي الاجتهاد الشخصي المبذول، في محاولة تكاد تكون شبه مستحيلة– أحيانًا- في توصيل الروح الأصلية للنص. وذلك ما حدث مع رواية شهيرة للأديب العالمي، إرنست هيمنجواي، إذ بنظرة متفحصة علي موقع الكُتب الشهير »جودريدز»، تري أن روايته »العجوز والبحر» أو »الشيخ والبحر» - كما هي في ترجمات أخري– قد ترجمها من قبل أكثر من عشر مُترجمين. ولكن ما رأي المُترجمون في وجود أكثر من ترجمة للنص الواحد؟ هل هُنالك كمال للنص؟ كيف هل في هذا استفادة للقاريء؟ أم أن الأمر مُجرد مضيعة للوقت، ويندرج أمر إعادة الترجمة إلي أن يدخل في زمرة كونه مُجرد بضاعة ويرتبط بأمور تسويقية؟ الإعادة ضرورة أحيانًا يري مُترجم السلسلة المشهورة، سلسلة أغنية الجليد والنار، هشام فهمي، أن تعدد ترجمات العمل الواحد أمر ضروري جدًا، وخصوصًا مع الكلاسيكيات؛ لأنّ الغالبية العظمي من تلك الأعمال تُرجمت منذ سنوات طويلة، وفي تلك الأثناء كان الأمر صعب يقصد محاولة الحصول علي معلومات خاصة بالثقافة التي يُترجم منها وكذلك خصوصية اللغة، أو حتي القيام بمقارنة ومقاربة المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، ولكن الآن الأمر اختلف تمامًا. ثم يعقد مقارنة بين الترجمات السابقة، والترجمة الحالية لنفس العمل فيقول: »هؤلاء المُترجمون قد بذلوا جهودًا يشكرون عليها، ولكن أخطاء النقل والترجمة مبثوثة داخل عدد لا بأس به من الأعمال، بسبب طبيعة الحياة في زمنهم، وصعوبة تحصيل المعلومة، علاوة علي استخدام كلمات وألفاظ ربما تكون الآن مهجورة أو عصية علي الفهم. ولكن في الوقت الحاضر، وُجِدت إمكانيات أكثر، الأمور انفتحت، وأصبح في قدرة المُترجمه الإلمام بكل ما يحتاج إليه النص، لذا إعادة ترجمة الكلاسيكيات بلغة عصرية أقرب لفهم القاريء الحالي أمر مهم، وفي الوقت نفسه، لابد أن تكون الترجمة رصينة، محافظة علي روح النص الأصلي.» ويُدلل صاحب ترجمة رواية الهوبيت علي ذلك من خلال مِثالين: الأول تجربته الشخصية من خلال ترجمته لرواية فرانكنشتاين لماري شِلي، حيث ترجمها كاملة إلي اللغة العربية للمرة الأولي، وحازت – ولا تزال حتي الآن- علي إقبال كبير من القراء. والمِثال الآخر من خلال شيكسبير، فنتيجة لعدم فهم المُترجمين لطبيعة اللغة التي كان شيكسبير يستخدمها، وقعوا في أخطاء كثيرة، لمسها بالفعل من خلال قرأته حيث يُضيف: »وجد المُترجم الكبير »صالح نيازي» أن ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرحية ماكبث، تضمنت 170 خطأ، بالرغم من كونها أصغر مسرحيات شيكسبير. أما إعادة ترجمة الأعمال الحديثة، فلا أري أي ضرورة لها إلا في حالة أن تكون الترجمة –حقًا- سيئة وتحتاج إلي إعادة. في حين يحكي المُترجم عن الإيطالية، معاوية عبد المجيد، الذي ترجم أعمال لإيليا فيرانتي وكارلوس زافون وغيرهم، أنّه قد تعرض لفكرة تعدد الترجمة حينما أراد أن يُترجم رواية »الفهد» للكاتب »دي لامبيدوزا» وعرض الفكرة علي الناشر، فتحمس له.ولكن معاوية كان قد نسي أن الرواية ترجمها قبله أحد أعمدة المُترجمين والأدباء في الوطن العربي، وهو عيسي الناعوري المتوفي في سنة 1985م، فقرأ الترجمة، وندم أنّه فكّر في إعادة العمل، بسبب قوة النص العربي، وأنّه لم يقرأها قًبل أن تومض فكرة الترجمة في عقله، فاتفق مع الناشر، وعدل عن فكرة إعادة الترجمة، ولكن من الممكن أن تحصل الدار علي حقوق النشر، في حين يتولي معاوية تدقيق ومراجعة الترجمة مع آخر طبعة إيطالية، حيث أن الإيطاليين أعادوا العمل علي الرواية، بعدما اكتشفوا بعض التعديلات التي كان ينوي »دي لامبيدوزا» إدخالها علي متن العمل. الرحلة من الرفض إلي الإيجاب قالت ريم داوود والتي ترجمت عدة إعمال من دول مثل مقدونيا والهند وبلجيكا، أنّها لم تكن مستسيغة للفكرة في باديء الأمر، ولكن بعدما دخلت في غمار مناقشات مطولة مع أصدقائها، اقتنعت بجدوي القيام بالفعل فتضيف: »وجدت أن المُترجم يضع شيئًا من روحه، ويستخدم مفرادته الخاصة (وربما شيئًا من خبراته) في كُل عمل يُترجمه، وهذا ما يجعل كُل ترجمة مختلفة، ومتفردة بذاتها، حتي لو كان الأصل واحدًا.» واقتناعها الفعلي بالأمر كان وليد التجربة، حينما شرعت في قراءة أعمال »تشيكوف» باللغتين العربية والإنجليزية، وجدت أن الترجمة العربية للدكتور »أبو بكر يوسف» تتميز بلغة عذبة، مفردات بديعة، وأسلوب سلس،تُعلل: »الترجمة الإنجليزية، ولا أتذكر اسم المترجم، ولكنّها كانت صادرة عن دار بينجوين، أصابتني بالضجر ونفاد الصبر بعد صفحات. الترجمات المتعددة للعمل الواحد توفر تنوع للقاريء، وتعمل علي أن يكون مُتاحًا أمامه علي رف المكتبة الكثير، بالتالي يختار ما يرتاح له، ما يُناسب مع ذائقته، وربما يساعده هذا علي تحفيزه للمقارنة والقراءة بتعمق أكبر.» أما عاطف محمد عبد المجيد الذي كان له تجربة ترجمة عمل قد تُرِجم قبلاً، وهو رواية »الأمير الصغير» للفرنسي أنطوان دو سانت أكسوبيري، يري أن الأمر قد يكون إهدارًا للمجهود الذي يُمكن إدخاره لترجمة عمل آخر ويضيف: »علي النقيض، قد نجد أن الترجمات المختلفة ليست علي نفس المستوي، وهنا تظهر الحاجة الماسة لظهور ترجمات مختلفة للعمل الواحد، وخاصة في هذا الزمان، حيث خرجت ترجمات هدفها تشويه العمل، وبث روح الكراهية داخل نفس القاريء، وهذا لا يخرج إلا من مُترجم غير واعِ، غير مُدرك لماهية عملية الترجمة.» في حين أن ميسرة عفيفي، المترجم عن اللغة اليابانية، كان من المؤيدين لفكرة أن العمل الأدبي يجوز إعادة ترجمته أكثر من مرة، ولكن هذا لم يتأت إلا بعد معارضة شديدة، ولم يثنه عن رأيه إلا بعدما لاحظ أن الترجمة العربية لقصة »في غابة» للأديب الياباني الشهير ريونوسكيه أكوتاغاوا، حيث تعتبر أشهر أعماله جوار قصة »راشومون»، وجدها مختلفة تمامًا عن النص الياباني الأصلي، وأرجع ميسرة ذلك إلي أن النص كان قد تُرجم عن الإنجليزية، أي ترجمة لترجمة الأصل، ويضيف قائلاً: »في حقيقة الأمر أحاول ترجمة ما لم يترجم قبلاً، خصوصًا أن حجم وكمية الترجمة في العالم العربي - حاليًا – لا تسر عدو ولا حبيب، وليس لدينا رفاهية ترجمة عمل أكثر من مرة. وهذا بشكل عام علي كُل اللغات، وحينما نخص الذكر الترجمة من اليابانية فحدث ولا حرج. فحينما عمدت إلي إحصاء عدد الأعمال المُترجمة عن اللغة اليابانية سواء ترجمة مباشرة أو حتي من خلال ترجمة وسيطة، وجدتها لا تزيد بأي حال عن 200 عمل فقط علي مدي التاريخ كله. لذا أري أن الأولوية الآن لابد أن تنصب علي ترجمات جديدة عن إعادة الترجمة.» نظريات جديدة فيما تُخبرنا الدكتورة أماني فوزي حبشي، التي ترجمت أعمالا عن الإيطالية لكالفينو وإيكو وبيرانديللو وغيرهم، أنّه حاليًا في الجامعات، ظهر علم جديد اسمه علم دراسات الترجمة Translation Studies، وتعرفه فتقول: »وهو الذي يقوم علي دراسة الترجمات، وتعدد الترجمات وأسبابها، من خلال نظريات معروفة ومن خلال نظريات جديدة مستحدثة، ومنها الدراسات السوسيولوجية للترجمة، والتي كما يقول عنها الدكتور سامح فكري حنا، وهو من طبق تلك النظرية علي ترجمات أعمال شكسبير إلي اللغة العربية (والتي لها أكثر من نسخة أيضًا): “عملية الترجمة ليست فقط مواجهةً بين مترجم ونصٍ أصلي، فالأطراف المشاركة في عمليات انتاج الترجمة وتلقيها كثيرة ومتعددة، ويلعب كل منها دوراً في تشكيل الترجمة وتحديد سماتها ومعاييرها، ومسارها ومصيرها داخل الثقافة المنقول إليها. بالإضافة إلي المترجم هناك الناشر/ة، وسياسة النشر المتبعة، وطريقة تقديم الترجمة، بما في ذلك عتبات النص التي تشمل الغلاف الأمامي والخلفي، والمقدمات والحواشي. أضف إلي ذلك علاقة هذه الترجمة بغيرها من الترجمات المتاحة في سوق الترجمة، وعلاقتها بمعايير الترجمة المقبولة في الثقافة المترجم إليها، بما في ذلك المساحة المتاحة لتقبل الاختلاف، لا سيما فيما يتعلق بما يمكن أن تراه الثقافة المترجم إليها علي أنه من قبيل المحرمات.”» وتوضح الدكتور أماني دور وسائل التواصل الاجتماعي المُتعددة،حيث تري أنّها وسيلة لحث القاريء علي المقارنة بين الترجمات المُتعددة للنص الواحد، وهذا يعمل علي الاقتراب أكثر من النص، وقراءته من خلال زوايا تأويلية مختلفة طبقًا لأيديولوجيا وفكر كُل مُترجم. أما المترجم الصحفي أحمد ليثي يقف في منطقة الحياد. فيَري أنّ هنالك وجوبا وإلزاما لإعادة الترجمة، وكذلك عدم وجود سبب فعلي للعمل علي الإعادة، حيث يري أنّه لا داع لوجود أكثر من ترجمة للنص نفسه في نفس الفترة الزمينة إلا لداع عاجل وهو متمثل في وجود أخطاء داخل الترجمة تقتضي إعادة العمل مرة أخري ولظهور غيرها ويضيف: »ولكن ربما يكون من الضروري – في بعض الحالات ومع أعمال قليلة- أن تُعاد الترجمة مرة أخري، بعد فترة زمنية معقولة، لأن الترجمة تأويل، ورؤية شخصية للمرء، حيث تنعدم وجود ترجمة نهائية لنص ما.» في حين تري المُترجمة عن الصينية يارا المصري، أن هنالك العديد من الترجمات قد وفدت إلينا من خلال لغات وسيطة، أو أحيانًا عبر لغاتها الأصلية، ولكن فيها بعض الركاكة أو في لغة ثقيلة علي القاريء، وبالتالي ظهرت الحاجة إلي تقديمها مرة أخري بشكل أكثر معاصرة، تُضيف يارا: »وأعتقد من هنا أن إعادة ترجمة بعض المؤلفات ضرورة، ذلك لعدة أسباب أولها تقديم أفضل نص للقاريء، وثانيًا إتاحة الفرصة لدارسي الترجمة والباحثين للاستفادة من الترجمات المتاحة للمقارنة بينها وتوسيع دراسات الترجمة ونقدها.» وتٌشير صاحبة ترجمة »الذواقة» للصيني لو وين فو، إلي أن إعادة ترجمة الأعمال الأدبية لا تعني بها أن يتم تجاهل الترجمة (القديمة) تمامًا، بل يُمكن النظر إليها علي أنّها استكمال لجهد المُترجم والاستفادة منه، وبالتالي تقديم ترجمة تٌضيف جديدًا إلي النص، ترجمة يرضي عنها كُلاً من المُترجم والقاريء. معارضة ورفض يعارض المترجم عن الفارسية، غسان حمدان، فكرة وجود أكثر من ترجمة للعمل الواحد، ويري أنّه من الأفضل أن يقوم مُترجم مُحترف بالعمل علي الترجمة، ومن الممكن أن يقوم مُترجم آخر بتقديم كتاب آخر، ولكنّه يُؤكد: »ولكن يا عزيزي، الكتاب ليس بضاعه، الكتاب لا يُمكن المقارنة بينه وبين الشامبو! والأهم من كُل ذلك هو وجود حقوق للكُتب والمؤلفين. فإذا وقعت دار نشر عربية مع مؤلف لترجمة أعماله بالطبع سيكون الحال أفضل. هذا بخلاف وجود حقوق كُتاب سقطت نظرًا لأنهم توفوا من زمن بعيد، ولكن صدقني وجود عدة ترجمات لكتاب واحد تشعل »حرب» الغيرة والمنافسة السلبية». أما المترجم السعودي راضي النماصي، يقولها قولاً واحدًا »لا فائدة». فالمُترجم يجب عليه أن ينأي بنفسه عن هذا الفعل إلا إذا وجد أن الترجمة الأولي كانت كارثية عند القراءة، ووجب تغيرها، ويضيف: » ولكن أوساط النشر غير معنية بهذا، لأنّ الأمور لديها متعلقة بأمور تسويقية بسبب حجم الكِتاب وشهرة المؤلف؛ مع أن هناك العديد من الروائع ما دون 100 صفحة علي الانترنت ولم تترجم مطلقًا، ويكفي نظرة وبحث بسيط علي جوجل لتجدها.»