لا يزال ملف الأحوال الشخصية للمواطنين المسيحيين المصريين هو من أكثر الملفات جدلاً خلال الأسبوع الثانى على التوالى.. خاصة بعد قيام البابا شنودة الثالث بعقد جلسة طارئة للمجمع المقدس لبحث تداعيات هذه الأزمة. والتى يمكن رصدها طبقاً لتتابعها الزمنى من خلال: موقف المواطنين المسيحيين المصريين، وموقف الكنائس المصرية، وموقف المجمع المقدس، ومواقف التصعيد (الفردية والإعلامية).. وهى مواقف تطرح تساؤلات عديدة حول مفهوم الدولة الدينية والدولة المدنية خاصة فى ظل تصريحات البابا وعدد من الأقباط حول تطبيق الشريعة الإسلامية والتى تعطى الحق لأهل الكتاب فى الاحتكام لشريعتهم فى الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى هتاف بعض شباب الأقباط داخل الكاتدرائية يوم الأربعاء الماضى « الإنجيل هو الدستور وأى حاجة غيره تغور».. الهتاف والتصريحات حول الشريعة يطرحان سؤالا حول: هل الأقباط والكنيسة يريدون دولة مدنية أم دينية؟ لقد اتسم موقف غالبية المواطنين المسيحيين المصريين برفض تام لحكم المحكمة الإدارية العليا بأحقية واحد من المواطنين المسيحيين المصريين فى الزواج، وإلزام الكنيسة باستخراج تصاريح زواج له للمرة الثانية. فضلاً عن وجود موقف مقابل لأصحاب مشكلات الأحوال الشخصية، والذين اعتبروا الحكم انتصاراً لهم فى مواجهة قرارات الكنيسة وشروطها. أعتبر العديد من المواطنين المسيحيين المصريين حكم المحكمة الإدارية العليا بأنه بمثابة إهانة لكل مسيحى، وأنه يضع كل مواطن مسيحى مصرى ملتزم دينياً فى مواجهة مع القضاء الذى يحكم بما يتناقض مع أحد الثوابت المسيحية.. وهو سر الزواج الذى يعد واحدا من أسرار الكنيسة السبعة على غرار أركان الإسلام الخمسة. الملاحظ فى الأمر، إن غالبية ردود أفعال المواطنين المسيحيين المصريين؛ لم ترتكز على أساس معلوماتى.. بقدر ما تم اتخاذه فى سبيل مساندة البابا شنودة الثالث شخصياً بعد أن تسببت بعض وسائل الإعلام غير المسئولة وطنياً عن تصوير الأمر.. وكأنه صدام بين الكنيسة والقضاء، أو بمعنى أدق بين البابا والدولة. وهو ما جعل السواد الأعظم منهم فيما بعد يوقع على بيانات رفض حكم القضاء الإدارى ودعم موقف البابا شنودة الثالث ومساندته فيما يقول. وأعتقد أن العديد من ردود الأفعال لم تعتمد المعلومات الدقيقة فى اتخاذ رد الفعل.. بقدر ما اتخذت موقفاً وجدانياً.. يحكمه منطق التعاطف مع الكنيسة ومع البابا. منذ صدور حكم محكمة القضاء الإدارى.. وردود الأفعال تتزايد وتتصاعد بين العديد من المسيحيين المصريين إلى أن وصل الأمر للحديث عنه داخل الكنائس سواء بشكل غير رسمى أو فى بعض الاجتماعات.. خاصة بعد التناول السلبى له فى بعض وسائل الإعلام. وهو ما ترجم خلال الأيام القليلة التى سبقت دعوة البابا شنودة الثالث لجلسة طارئة للمجمع المقدس بصدور العديد من بيانات التضامن مع الكنيسة والبابا سواء من خلال بيانات فردية لبعض الكنائس أو بيانات مجمعة للعديد من الكنائس. وهذه البيانات تدل على الحشد الذى تم بعد شعور الكنيسة وأتباعها بالخطر فيما يمس ثوابتها الإيمانية والعقيدية.. خاصة بعد العديد من الشائعات المغرضة التى انتشرت فى المجتمع من أن هذا الحكم هو بداية لسلسلة إجراءات تم تحضيرها للوصول لقرار بسيطرة الدولة على تعيين بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. أما عن موقف المجمع المقدس الذى عقد جلسة طارئة له يوم الثلاثاء الماضى، فقد جاء موقفه على عكس ما توقع الكثيرون مما روجوا له من استدعاء أجواء أحداث 81 فى إشارة إلى صدام مرتقب بين الكنيسة والدولة حيث حسم المجمع المقدس موقفه الذى حمل العديد من المواقف المؤسسية والرسائل السياسية من خلال توازنات فكرية تحترم ضوابط العلاقة بين الكنيسة المصرية والدولة الوطنية لاحتواء الموقف بدون تصعيد إعلامى حيث صرح البابا شنودة الثالث بعد انتهاء الجلسة الطارئة مباشرة فى مؤتمر صحفى عن موقف الكنيسة بوضوح، والمتمثل فى: 1 - احترام القانون. 2 - رفض أى أحكام قضائية ضد الإنجيل. 3 - الزواج هو إجراء كنسى مرتبط بالعقيدة المسيحية. 4 - شلح أى كاهن يعقد الزواج الثانى. أما الرسائل السياسية، فهى: 1 - لا يمكن قبول الحكم ضميرياً. 2 - لا تستطيع الكنيسة تنفيذ الحكم. 3 - اللجوء للرئيس لوقف الاضطراب والشوشرة التى حدثت. 4 - الحزب الوطنى ليس له علاقة بالحكم. 5 - تفعيل قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية. وهى مواقف ورسائل تحمل فى شق منها حسم الأمر والحزم فى التعامل معه، وفى الشق الثانى.. تحمل موقفاً مباشراً باحترام الدولة من خلال قوانينها. وهو موقف يتضمن رسالة غير مباشرة حول عدم وجود المواجهة التى يفترضها البعض بين الكنيسة والدولة. وإن اللجوء هنا سيكون لرئيس الدولة المصرية. من الملاحظ أيضاً فى التعليق على حكم القضاء الإدارى.. هذا التصعيد الذى حدث على شبكة الإنترنت من خلال تأجيج طائفى متبادل بين طرف يتهم الكنيسة بأنها دولة داخل الدولة المصرية ووصفها بعبارات سخيفة مثل (دولة شنودة الثالث). وفى المقابل مجموعات بريدية تطلق شعارات طائفية مثل (هنولع فى البلد) فى إشارة إلى ما يردد حول اعتقال البابا شنودة الثالث بسبب عدم تنفيذه حكم القضاء الإدارى. وهو ما يعنى ببساطة شديدة أن كل طرف منهما يريد أن يصور نفسه باعتباره شهيداً للوطن أو الدين.. رغم أن واقع الأمر يؤكد أن كل منهما مجرم فى حق دينه ومن قبله فى حق وطنه مصر. أعتقد أنه من المفيد أن أكرر هنا إن علاقة المواطن المصرى المسيحى بالدولة هى علاقة قانونية ومدنية وفق نصوص تشريعية تقنن الالتزام الوطنى والقانونى، بينما علاقته بالكنيسة هى علاقة دينية وروحية وفق مرجعية إنجيلية تقنن الالتزام الدينى. وبالتالى، فهناك أهمية قصوى فى احترام وتقدير أحكام القضاء.. بما لا يخالف الشريعة المسيحية. ومن هذا المنطلق، أعيد طلب تبنى ومناقشة بعض الحلول العملية على غرار: 1 - إصدار قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية. 2 - إصدار قانون مدنى موحد يؤكد على حقوق المواطنة، وينظم لعلاقات الأسرة المصرية. 3 - أن تقوم الدولة بتسجيل الزى الكهنوتى بشكل قانونى من جانب، وإعطاء الصبغة الرسمية له بقرار من وزير العدل للكهنة المعترف بهم رسمياً من الكنيسة والذين يحملون دفاتر توثيق الأحوال الشخصية.. لتجنب الوقوع فى شرك بعض الكهنة (المشلوحين) أو (الموقوفين) من الكنيسة، والذين يقومون بالتزويج وتوثيق ذلك قانونياً فى مقابل مبالغ مالية تتراوح حسب الفئة الاجتماعية التى ينتمى إليها طالب الزواج. تبقى لى ملاحظة أخيرة، وهى فى اعتقادى مفارقة مهمة تتعلق بالسؤال الذى طرحته فى بداية المقال: هل يريد الأقباط دولة مدنية أم دينية؟ أن العديد من ردود الأفعال سواء من النخبة المسيحية أو الإسلامية المصرية، ومن قبلهم رد فعل الكنيسة قد اعتمد على الاستشهاد بآيات القرآن الكريم للتأكيد على أن يتم إصدار الأحكام المتعلقة بالمسيحيين المصريين طبقاً لشريعتهم وعقيدتهم. وهو ما يعنى أن النخبة الفكرية والكنيسة التى تطالب بتطبيق منظومة المواطنة والدولة المدنية قد وقعت هى نفسها فى مأزق الطائفية باستدعاء آيات القرآن الكريم والاحتكام للشريعة الإسلامية بوجه خاص، وبالتبعية لمنطق الدولة الدينية بوجه عام من أجل إثبات وتأكيد مسئولية الكنيسة عن الأحوال الشخصية والدفاع عن هذا الموقف بدلالات دينية فى استبعاد واضح وصريح ومباشر لمبادئ الدولة المدنية ومنظومة المواطنة التى طالبوا بها قبل ذلك كثيراً. وهو ما يؤكد أن ما حدث فى حكم القضاء الإدارى ليس إلا تداخلا فى العلاقة بين الدين والدولة من خلال المواجهة التى حدثت بين الكنيسة والقضاء. نعم، لا أحد فوق القانون المصرى.. فهو الحاكم الفيصل بين كل المواطنين المصريين بدون استثناء.. وما أرفضه هو توظيف القانون فى افتعال أزمات ليس لها محل فى المجال الوطنى.؟