كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية «13» دولة الإسلام وحكم الناس بالعصا والسياط بدءا من هذا الأسبوع .. نواصل سلسلة المقالات التي يكتبها د. أحمد شوقي الفنجري عن السؤال الذي احتار فيه الكثيرون وهو : يقول أصحاب هذا السؤال هل يعني الحكم بالإسلام تجنيد شباب ذوي وجوه عابسة ولحي طويلة وهراوات غليظة.. يخرجون إلي الشوارع يضربون كل من لا يصلي في المسجد أو لا يغلق متجره عند الأذان، وقد بلغ الأمر أن بعض الدول التي أعلنت تطبيق الإسلام قد أعطت هذه الجماعات حق توجيه الاتهام لأي إنسان في الشارع ثم محاكمته في الحال ثم تنفيذ الحكم.. وكل ذلك خلال دقائق معدودة.. وقد تتراوح هذه الأحكام بين الإعدام أو الجلد أو السجن.. ففي إيران في عهد الخوميني هجم هؤلاء الشباب علي حي الفنانين وأخذوا سبع نساء ممن يمتهن الرقص والغناء.. ووجهوا إليهن تهمة البغاء وأعدموهن علناً في الشارع تحت سمع الحكومة وبصرها (كتاب إيران من الداخل فهمي هويدي - دار الأهرام للنشر) ومرة أخري أعدموا إحدي عشرة امرأة كن يسبحن في البحر في غير الوقت المخصص للنساء. في السودان علي عهد النميري قبض الشباب علي وزير يركب سيارته ومعه سكرتيرته وهو في الطريق إلي عمله ووجهوا إليهما تهمة الزني (النصوص السرية لاتفاقية خاشجتي مع نميري) جريدة الوطن الكويتية. ومن أقبح الأعمال التي يرتكبها هؤلاء تصديهم لأي رجل وامرأة يسيران معاً في الطريق أو يتحدثان معاً.. ويسألونهما عن علاقتهما ببعض.. وكأنما يرتكبان إثماً محرماً.. فهم لجهلهم بالدين يتصورون أن الإسلام يحرم أي علاقة بريئة ونظيفة بين الرجل والمرأة، سواء كانت علاقة عمل أو صداقة أو زمالة في العمل أو العلم وما لم تكن معهم وثيقة زواج يتعرضان للضرب والسجن!!! فهل هذا وأمثاله هو المفهوم المتعارف بين الإسلاميين لتطبيق الإسلام؟ ونقول كلا وألف مرة كلا.. إن الإسلام أكرم وأجل من أن يعرض رعاياه لهذه المهانة وهذا الإذلال.. جاء ليرفع شأن المسلم ويعلي كرامته.. ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول إن من أولي حقوق المسلم «ألا يظن به إلا خيراً» إن الإسلام قد كرم المسلم عن أن يكون في مستوي الشك في سلوكه مادام لا يجهر علناً بالسوء.. وقد حرم الإسلام ضرب المسلم حتي لو كان متهماً بجريمة وكان في السجن تحت التحقيق وإذا أخذ منه اعتراف تحت الضرب يصبح باطلاً وفي السودان في عهد النميري هناك قانون الاحتشام يفضي بسجن أو ضرب الأنثي إذا لبست ملابس غير تقليدية! ولكن أولئك الحكام الذين يستغلون الدين لأغراضهم السياسية قد استغلوا تعصب هؤلاء الشباب وجهلهم بالدين في إذلال شعوبهم.. وإذلال كل من يشتمون منه رائحة المعارضة لحكمهم.. فكونوا منهم جماعات تحت أسماء مختلفة مثل حراس الثورة أو جماعة الإصلاح وغير ذلك من المسميات ثم أطلقوهم في الشوارع وكأنهم قضاة وحكام واستغلوهم أبشع الاستغلال في حماية الحاكم وضرب خصومه السياسيين!! وقد بلغ الأمر أن أحد الحكام قد سلط هؤلاء القوم علي أحد قادة جيشه حين بلغه أنه ينتقد سياسته فهجموا علي القائد في بيته يوم جمعة بتهمة عدم الخروج للصلاة في المسجد وربطوا الحبال في رقبته واقتادوه في الشارع كنوع من الإذلال والتجريس وفي اليوم التالي عاد القائد إلي عمله وكأن شيئاً لم يحدث ولكن بعد أن سلبت منه شجاعته في النقد وجرأته في الكلام. لكي نشرح الطريق السليم لتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. نتبين أن هذه السلطة هي ما يسمي في الإسلام (قضاء الحسبة) وهو القضاء المختص بسلوكيات الناس ومحافظتهم علي الآداب العامة وتنفيذهم لأوامر الدين وعدم الغش في الأسواق. وعلي عهد عمر بن الخطاب ولي امرأة (هي الشفاء) علي رئاسة هذا القضاء ولا شك أنه كان يقصد بذلك ما عرف عن المرأة من الرفق بالناس والرقة في المعاملة.. وفي تطبيق القانون فانظر إلي الفارق الكبير بين الحاكم الذي يحكم باسم الدين وفي خدمته.. وبين الحاكم الذي يستغل الدين لبقائه في كرسي الحكم.. أما عن قضية ضرب الناس أو سوقهم مجبرين إلي الصلاة تحت تهديد الهراوات خمس مرات كل يوم كما يحدث في البلاد التي أعلنت الحكم بالإسلام فهذا أمر يسيء ويجرح كرامة المسلم.. وهو خطأ شرعي.. فصلاة الجمعة هي الوحيدة التي فرض حضورها في المسجد ومع الجماعة أما باقي الصلوات فليس فرضاً فيها حضور الجماعة في المسجد ويمكن لأي مسلم أن يؤديها في بيته أو مقر عمله فالتاجر أوالطبيب أوالعامل أوالموظف والفلاح يمكن أن يؤديها في مقر عمله سواء كان فرداً أو جماعة مع زملائه وليس للدولة أو لأي مخلوق فيها أن يجبرهم علي ترك أعمالهم والتوجه إلي المساجد في كل صلاة.. حقيقة أن صلاة الجماعة في المسجد سنة مستحبة ولكنها ليست فرضاً يأثم المسلم بتركها مادام لا يترك الصلاة نفسها لأن تدارك الصلاة له حكم آخر.. ووضع آخر غير موضوعنا هذا. وقد رخص الرسول - صلي الله عليه وسلم - للمسلمين في عدم التوجه إلي المسجد في ظروف البرد أو الريح أو المطر.. وإذا حانت ساعة طعامهم وأذن المؤذن فعليهم أن يأكلوا أولاً ويؤجلوا صلاتهم.. ومن أقوال الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك «لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين» مسلم، ويقول أيضاً «من فقه الرجل إقباله علي حاجته حتي يقبل علي صلاته وقلبه فارغ» رواه البخاري.. ومعناه إذا كان الإنسان مشغول البال بقضية مهمة وحان وقت الصلاة يمكنه أن يؤجل الصلاة إلي أن ينتهي منها ثم يقوم إلي الصلاة رائق البال.. ويري فقهاء الإسلام أن هناك مهناً حساسة.. وتتعلق بها مصالح المسلمين.. فهذه يستحسن للمسلم فيها ألا يترك عمله للصلاة حتي لا يضر برزقه أو بالمصلحة العامة.. وله في هذه الحالة أكثر من حل يتيحه له الإسلام: (أ) أن يصلي في مقر عمله توفيراً للوقت سواء كانت هذه الصلاة فرداً أو جماعة مع زملائه في العمل. (ب) أو أن يؤجل الصلاة لحين فروغه من العمل وعودته إلي بيته. (ج) أو أن يجمع الصلوات جمع تقديم أو جمع تأخير بسبب ظروفه فيصلي الظهر مع العصر تقديماً أو تأخيراً ويصلي المغرب مع العشاء أيضاً وقد كان الرسول يفعل ذلك في بعض الأيام فلما سألوه عن سبب ذلك قال: «حتي أخفف عن أمتي» رواه البخاري ومسلم (كتاب فقه السنة: سيد سابق باب جمع الصلاة) وقد ضرب الفقهاء المثل لأصحاب هذه المهن المعروفة علي عصرهم كالخبازين والطباخين والحراس. وفي عصرنا هذا هناك ظروف جديدة قد استجدت علي المجتمع الإسلامي وهي أهم وأخطر من البرد والمطر وأهم من الطعام، وهناك مهن مستجدة أشد حساسية من مهنة الخباز والطباخ.. فمن هذه المهن: عمل الطبيب والممرضة ومنها الموظف الذي يتوقف علي وجوده قضاء مصالح الناس.. ومنها المسئول عن الحراسة والأمن والشرطة والإسعاف والمرور وكثير من الوظائف الحساسة التي لم تكن معروفة علي عهد الفقهاء أصحاب المذاهب.. فإنها جميعاً ينطبق عليها الرخصة في عدم قضاء الصلوات في المسجد. وبعد هذا كله يحق لنا أن نتساءل من أين جاء هؤلاء الناس الذين يدعون الغيرة علي تطبيق الإسلام.. من أين جاءوا بالأمر بضرب الناس بالهراوات في ساعة الصلاة إذا لم يغلقوا متاجرهم أو لم يتركوا أعمالهم؟! ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن بعض المسلمين للأسف الشديد قد أصبحوا يتركون عملهم ويعطلون مصالح الناس بحجة الصلاة وتطول غيبتهم دون مبرر وهذا هو أسوأ استغلال للدين للتهرب من العمل.. وتكفي هذه النية لكي تهدم صلاته وتضيع ثوابه.. فهو ينسي أن خدمة الناس عبادة وأن تعطيل مصالح المسلمين إثم كبير لا يغفره الله له. بقي الآن موضوع مراقبة الآداب الإسلامية وفي عصرنا هذا يؤدي هذه الوظيفة شرطة الآداب ويمكن تنظيمها وتوسيع اختصاصاتها وأيضاً شرطة التموين لمراقبة الغش التجاري. ولكن يجب أن نفهم قاعدة مهمة وحيوية وهي أن الإسلام لا يقبل أن توجه التهم جزافاً للناس وأن يدانوا دون دليل واضح.. والحدود في الإسلام لها شروط لا يجوز تطبيقها دون استيفائها. أما أن توجه تهمة الزني إلي أية امرأة لمجرد أنها احترفت الرقص أو الغناء ثم تعدم كما حدث في إيران فهذا هو الانحراف عن الدين. وهذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد جمع مجلس الصحابة وأخذ يسألهم: ماذا لو أن أمير المؤمنين شاهد رجلاً وامرأة علي معصية (يقصد الزني) فهل يقيم عليهما الحد؟ فقالوا له: يأتي بأربعة شهود وإلا يقام عليه حد شهادة الزور ويجلد في ذلك شأنه كأي واحد من الرعية.. فسكت عمر ولم يتكلم فانظر إلي أي مدي يصون الإسلام كرامة الرعية.. بينما هؤلاء الحكام يستغلون الإسلام ويطلقون زبانيتهم لإذلال الشعب. ولا يحق لأحد باسم الإسلام أو بادعاء الغيرة علي الدين أن يوجه أية تهمة أو شك إلي أي مسلم ومسلمة يتحدثان في الطريق معاً ماداما يراعيان الآداب العامة ولا يأتيان بأي حركة أو قول يخدش الحياء. ولم يكن في موقفهما خلوة محرمة. كان هذا ما يتعلق بتنفيذ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ظل دولة تحكم بالشريعة الإسلامية.. وتقيم قضاء الحسبة الذي يقوم عن الرعية بمراقبة هذا المبدأ ويعمل علي تنفيذه. ولعل هذا الموضوع يقودنا إلي سؤال مهم جداً.. أصبح موضع جدل هذه الأيام.. وهو ماذا عن الدول المسلمة التي لا تطبق الشريعة ولا تقيم قاضياً للحسبة الإسلامية أو التي لا تعتبر المنكر إسلامياً منكراً قانوناً. ألا يصبح تنفيذ هذه المهمة واجباً علي كل فرد في الرعية عملاً بالأمر النبوي الكريم «من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» متفق عليه. ونقول رداً علي ذلك: إن كل فرد مسلم في موقع عمله في المجتمع الإسلامي.. سواء كان موظفاً يعمل في الدولة أو في شركة أو مصنع.. أو كان عضواً في جماعة أو فرداً في أسرة. وحتي لو كان عابر طريق، ورأي منكراً فعليه أن يقومه ويغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه. فإذا رأي أحد من هؤلاء حادثة رشوة أو سرقة أو خمراً أو مخدرات أو دعارة أو انحرافاً أخلاقياً فلا يجوز له أن يسكت أو يقف موقفاً سلبياً.. وأضعف الإيمان أن يبلغ المسئولين ويضع في رقابهم وزر السكوت إذا سكتوا.. وليس هذا واجب الرعية كأفراد فحسب.. بل من واجبهم أن يقيموا جماعات إسلامية خيرية وتطوعية.. تقوم علي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع الإسلامي، وأي حكومة واعية بعيدة النظر تريد لنفسها الاستقرار في الحكم والتفرغ للإنتاج، يهمها قطعاً أن تتعاون مع هذه الجماعات الخيرية وتنميها وتشجعها مادامت هذه الجماعات علي درجة من الوعي والإدراك.. والإخلاص في النصيحة والرأي.. ولا تقصد مجرد الهدم أو التجريح أو إضعاف الحكم.. ومن هنا فإن لنا وقفة مهمة حتي لا تختلط الأمور علي الناس!! وخاصة فيما يتعلق بالتصدي للتغيير باليد وبالقوة!! فهذه الولاية لا تحق إلا للعالم المتعلم المتنور.. الفاهم لأمور الدين والدنيا.. ويشترط فيه الحكمة والتعقل.. ولا تحق هذه الولاية للجاهل أو نصف المتعلم.. أو المتطرف في رأيه وفكره كمن يكفرون المجتمع كله.. أو يسارعون إلي اتهام كل من يخالفهم في الرأي والفهم بالكفر والانحراف. فهذا النوع لا تحق له الولاية علي الناس وعليه بنفسه وحدها، لأنه يسيء إلي الدين أكثر مما يخدمه ويهدم أكثر مما يبني.. ويشوه صورة الإسلام في نفوس الآخرين. أقول هذا بمناسبة ظهور بعض التيارات المنحرفة في مسار الصحوة الإسلامية المعاصرة. ولجوء بعضهم إلي العنف والسلاح ومحاولة فرض الوصاية علي الآخرين.. مما يجعلنا نشفق علي هذه الصحوة أن تموت وهي في المهد. وفي هذه الحالة نحيل القارئ إلي البيان المهم الذي أصدره علماء المسلمين في ساحة الأزهر الشريف يوم 1 يناير سنة 1989 والذي ألقاه عنهم فضيلة الشيخ طنطاوي - رحمة الله - وجاء فيه: «وقد اتفق العلماء أن تغيير المنكر باليد واجب علي ولي الأمر. وعلي كل إنسان في حدود ولايته. وأن تغيير المنكر إذا أدي إلي مفسدة أشد كان التوقف واجباً لأن إباحة تغيير المنكر بغير ضوابط يؤدي إلي شيوع الفوضي في المجتمع ويضر بمصلحة الدين والوطن». ولا يغفل هذا البيان المهم توجيه النصح إلي الدولة والمسئولين في نفس الوقت.. فيطالبهم من جانبهم بمنع المنكرات التي تستفز مشاعر الأمة وتدفع المتطرفين إلي العنف فيقول: «وثقتنا كبيرة في دولتنا أن تزداد حرصاً علي إحقاق الحق وإبطال الباطل وتدعيم الفضائل والقيم الدينية والخلقية: لأن ذلك يؤدي إلي سعادة الفرد والجماعة».