عشرات الأسباب تجعلنا ننتقد الإدارة السياسية الحالية، سواء كانت المجلس العسكري أو حكومة عصام شرف، أو كليهما باعتبار أن الثانية كانت تابعة للأول، أو هكذا ظهر للرأي العام. هناك أسباب تتعلق بمساعي إعادة إنتاج النظام السابق، فلسفة وآليات، وأخري تتصل باستمرار الخطاب السياسي الذي يقوم علي تعليق الجرائم التي ترتكب من مسرح البالون إلي العباسية ثم مديرية أمن الجيزة ثم ماسبيرو وأخيرا التحرير علي شماعة الطرف الثالث، أو الأيادي الخارجية، أو القلة المندسة، والتي لم يحدث أن قدم أي منها للمحاكمة، أو حتي تمكن الرأي العام من معرفة هويته، وأسباب أخري تتصل بالبطء في المعالجة، والتمهل إلي حد الرتابة في التصدي للتركة السابقة بكل ما تحويه من ترهل وعفن. إذن الأسباب التي تدعو لتسديد الانتقادات للإدارة السياسية في المرحلة الانتقالية ليست قليلة. ولكن كثير منها يصدر عن نخبة سياسية هي في ذاتها محل نقد، وطعن، وبعضها قد توجه له أصابع الاتهام بإفساد المرحلة الانتقالية، تماما مثلما توجه أصابع الاتهام إلي الحزب الوطني المنحل بإفساد الحياة السياسية لأكثر من ثلاثة عقود. وبالمناسبة فإن هذه النخبة السياسية ظلت لسنوات تتحدث عن الديمقراطية، لكنها في أعماقها تريد الاستبداد، وتتغذي علي فتاته، وتعيش علي معارضته المحسوبة. لم أستغرب أن يهب الشباب في «ميدان التحرير» اليوم ضد هذه النخبة بمختلف أطيافها، بعد أن سلموها الثقة و«الميكروفون» في المنصات المنتشرة علي مدار شهور، لم يفعلوا سوي «الهتاف»، ثم يبحثون المصالح الخاصة، والبرامج الفضائية، والأعمدة الصحفية، و«الصفقات التحتية» التي اعتادوا عليها في عهد مبارك. هذا دأبهم وديدنهم، ومن لا يعرف هذه النخبة يتأمل مسيرتها. دعونا نرجع إلي الوراء قليلا. صباح يوم 12 فبراير الماضي كان يوما غير عادي، فقد سقط النظام الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود، والبعض يرجعها لنحو ستة عقود باعتباره امتدادا لثورة يوليو 1952م، واستيقظ المجتمع علي حالة غريبة. فرحة هنا وهناك، وشعور بالسعادة لدي أطراف سياسية بزوال نظام مبارك، بكل تركة الفساد والإفساد والاستبداد والتعصب، التي حملها علي كاهله. في الوقت الذي كان الناس لا تزال تستيقظ من نومها بعد ليلة صاخبة في ميادين مصر، وشوارعها، امتدت للجاليات المصرية والعربية في العواصم الأوروبية، كان السلفيون ينظمون مظاهرات في العديد من المدن المصرية يطالبون بدولة إسلامية، ويرفضون أن يمس أحد المادة الثانية من دستور 1971م الذي سقط لاحقا. لم تكن الناس تعرف ماذا تريد في المرحلة الانتقالية سوي إزالة المظاهر الصاخبة للاستبداد مثل إسقاط دستور 1971م، حل مجلس الشعب الذي انتخب بالتزوير الفاضح، حرية تشكيل الأحزاب السياسية، البدء في إجراءات تكفل حياة اجتماعية وإنسانية كريمة. لم يكن المجلس العسكري، علي ما يبدو يعرف ماذا يريد المجتمع، ولم تكن النخبة السياسية الصاخبة الرافضة للاستبداد والفساد تعرف شيئا أكثر من إزالة نظام مبارك. علي مدار شهور من المرحلة الانتقالية ظهرت أمراض النخبة المصرية علي السطح، بما جعل الصورة واضحة، أن سقوط نظام مبارك كشف هشاشة، وضحل، وانتهازية النخبة السياسية والثقافية، بكل ما تعنيه من علل في التفكير، والتخطيط، والتواصل. قامت هذه النخبة التي تجمعت تحت شعارات الوحدة في ميدان «التحرير» ثم ما لبثت أن تفرقت عقب سقوط نظام مبارك تبحث عن المغانم المباشرة. قدموا أنفسهم للمجتمع علي أنهم «مقاولو هدم»، لا يعرفون كيف يكونوا «مقاولو بناء». لم يرتضوا علي حد أدني يقفون عليه. الكل بحث عن مصالحه. الذين تحولوا إلي «محامين» للمجلس العسكري في الشهور الأولي، يسدون أفواه المنتقدين له، ويرموهم بأقسي التهم، اليوم هم الذين يحضون المواجهة ضده، مطالبين برحيله إما فورا، أو بعد بضعة أشهر علي الأكثر. انتهازية صارخة، لا تبحث إلا عن مصالح محدودة مباشرة. النخبة الحالية تربت علي حجر «نظام مبارك»، لا تعرف كيف تبني التوافق، ولكن تدمن فقط فن الانقسام. حجر عثرة في وجه أي اتفاق، وحناجر محتقنة في وجه من يريد التوافق. الاتفاقات تنقض قبل أن يجف مداد القلم الذي كتبت به، والخطابات الاستعلائية، والتحريضية، والاستقطابية هي التي تحكم العلاقات بينهم. علي مدار شهور، وبالتحديد منذ استفتاء 19 مارس، أي قبل أربعين يوما علي سقوط النظام، أدخلت النخبة المصرية، بمختلف تشكيلاتها، المجتمع المصري في استقطاب حاد، مرة بسبب المادة الثانية، وأخري بسبب الدستور أم الانتخابات أولا، وثالثة نتيجة الجدل حول المبادئ الدستورية، وهكذا. لم يفهم الناس مسار الأمور، ولم تجر نقاشات هادئة لتوعية جمهور لم يعرف السياسة لنحو ستين عاما. نخبة فقيرة النخبة الحالية لا تمتلك مشروعا حقيقيا لنهضة المجتمع المصري. كلام مجاني في السياسة، ولكن دون أن تمتلك حلولا فنية سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية. يمكن تأمل النقاشات التي وقعت خلال الشهور الماضية في وسائل الإعلام لم تتمخض عن حلول أو أفكار أو رؤي للمستقبل، الكل يتصارع علي السلطة القادمة، ولم يشفي نفسه من إرث التفكير في الماضي العفن، ولم يستطع أن يتخلص من تركة مبارك. مأساة حقيقية ألا نجد نخبة تمتلك مشروعا استراتيجيا، كل ما تفعله هو اللجوء إلي «تكتيكات» متتالية، انتهازية، متغيرة، لا تعكس ثباتاً علي موقف، ولكن التغير الذي يصب مباشرة في المصلحة الضيقة الأنانية. باختصار هي نخبة نهمة، عاشت حرمانا نسبيا في عهد مبارك، تريد أن تستولي علي كل شيء. يريدون أن يكونوا كتابا، ونجوم فضائيات، ونواباً في البرلمان، وأعضاء في المجالس الحكومية. يعيشون في كنف الحكومة، ويعيشون علي انتقادها. وهي نفس الحالة التي عرفوها في عهد مبارك. الاختلاف فقط في الدرجة وليس في النوع. لم يكن غريبا أن يلفظ هذه النخبة شباب ميدان التحرير، يدفعونهم خارجه، فهم أكبر من استفادوا مما قدمه الشباب الأبرياء في نضالهم ضد مبارك، بينما يجنون ثمار التغيير في المجتمع، وهم جالسون في الغرف المكيفة، ضيوف مؤتمرات الفنادق الخمسة نجوم، يتنقلون من عاصمة أوروبية لأخري يتحدثون عن ثورة لم يساهموا فيها، بل كان بعضهم يدافع عن نظام مبارك حتي اللحظة الأخيرة. هؤلاء تنكروا لقيم ميدان التحرير، وتنكر لهم أهل ميدان التحرير، الذين يريدون أن ينشروا قيم الحرية، والعدالة الاجتماعية، احترام التنوع والاختلاف، التوافق، والتواضع المجتمعي، وخدمة الصالح العام. قيم عرفها المجتمع المصري في نضاله ضد الاستبداد، ثم ما لبثت أن أطاحت بها خيول نخبة سياسية جامحة نهمة تبحث عن المكسب بأي ثمن، وتوظف الغايات الكبري لخدمة مصالحها الذاتية، وتدفع الناس إلي التيه الفكري، والاستقطاب، والإحباط. هل ننتظر نخبة جديدة تعبر بالمجتمع المصري إلي الديمقراطية؟