معادلة الأدب لا تحتمل أكثر من طرفين: المبدع - ÷ - أيا كانت وجهة نظرك فيما ينتجه ويطرحه من إبداع- والمتلقى فى الطرف الآخر من المعادلة، وباستثناء «التوظيف» الذى اعترف به المسرح الرومانى- فى فترات ازدهاره- للنقد كآلية مهمة للارتقاء بالدراما والأدب، يظل الناقد نفسه مجرد «متلقى/مشاهد» آخر وحسب، الرقابة هنا ليست سوى «ابتكار» كاريكاتيرى هزلى سلطوى بحت، وأسوأها تلك التى ينصّب فيها «كل من هب ودب» نفسه واصيا على ذهن المتلقى، ورقيبا على ضمير المبدع، ومتحدثا بلسان «القوى العليا»، والأخيرة تحديدا حمّالة أوجه وقابلة للتأويل والتفسير حسب العصر، وحسب مفهوم كل «فرد» ل«قواه العليا»، فالتعبير مطاط للغاية، وقد يمتد من أول «رئيسك فى الشغل»، وحتى «الذات العليا»، وهى براء من ضيق أفق هؤلاء، وحتما لم تخول لهم سلطة حمايتها! مقدمة لابد منها لعلّهم يفقهون، ولا تعنى بالضرورة الانحياز لفِكر كاتب ما أو لعمل ما بعينه.
حسنا إن كان الانحياز فرض عين، فهو انحياز لحرية الفكر والتعبير والإبداع الأدبى مهما اختلَفْتُ شخصيا مع «توجّهه»، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم ولأغلب من «حزقوا من آخر حناجرهم»- دون قراءة غالبا- ضد مجموعة «أين الله» القصصية للمغمور «كرم صابر» الذى «انطس» خمس سنوات- وهى الحد الأقصى للأحكام المماثلة- كى لا تسوّل له نفسه طرح السؤال مجددا، أو حتى التطرّق على أى نحو لثمّة حوارات مماثلة مع/عن الله الذى خلقه، والذى غالبا لن «يطسّه» حكما مماثلا لمجرد أنه سأل، وبفرض أن الكاتب حتى لم يكن على درجة مناسبة من اللياقة إذ يتوجه بالسؤال، فالله غفور رحيم يا أخى، ولم يصادر الحق فى السؤال أصلا-دون التقيد بشرط اللياقة- فهو القائل سبحانه «وإذا سألك عبادى عنّى»!
العمل نفسه ربما كان يحمل بعض خصائص أعمال المبتدئين، الصياغة السطحية، اللغة الساذجة، الفِكرة الكبيرة التى يعوزها طرح عميق مماثل، وربما كذلك تورط العمل فى «التخبط الممنهج» الذى يغرق فيه إنسان «الجيل الثالث»، وهو تخبط للحق لم يستثن أحدا، يتعثر فيه «أولوا العزم» من المثقفين العظام فى المنطقة العربية بأسرها، فما بالك بمن يقف دونهم كثيرا، لكن «أين الله» على أية حال ربما كان فقرة فى كتاب ضخم لم يستكمل بعد يحاول مناقشة هذا كله، السؤال هنا: بأى حق تشطب فقرة كاملة لمجرد أنها لا تروق لك، ومن أنت أصلا لتحدد ما يجوز وما لا يجوز تداوله هنا؟
فى المقابل يدهشك أن الأمر صار أشبه بحلقات المسلسلات التركى والمكسيكى المضروبة التى تعج بها شاشاتنا من المحيط للخليج، فالأمر يبدأ دوما بنفس السيناريو الركيك: كاتب مبتدئ ينشر _بصعوبة_ عملا فقيرا على الأغلب، «يستلقطه» واحد ب«زبيبة فى عقله»، ويقاضيه متهما العمل غالبا بازدراء ذاته العليا، يتحول العمل إلى «وثيقة أدبية» تشهد على اغتيال الحريات، ولا تسمع بعدها بأية إبداعات حقيقية للكاتب، غالبا لفقر موهبته ثم ربما خوفا من ردود أفعال أكثر تشنجا لاحقا، «حيدر حيدر» ووليمته لأعشاب البحر مثال!
هذه العجلة «الهايفة» من تدوير وإعادة تدوير هذا الطراز من الكتابة يبدو أنها ليست إلى تعطل قريب، طالما أن المتلقى قد نصب «ذاته العليا» رقيبا طواعية، وناقدا، وقاضيا وشيخا، برغم أنه لا «كهنوت فى الأدب»، والمحصلة لن تتجاوز المزيد من التضييق على الحريات عموما، وتغول هذه الأيديولوجية المتشنجة ليس على الأدب وحده وإنما على المجتمع ككل!
فى 88 صفحة، وعبر 11 قصة قصيرة يتناول «كرم صابر» حكايا «الأرجحة بين الروحانية والدين»، وربما بعد يوسف إدريس لم يعد هناك كُتَّاب يستفزهم واقع الفلاحين كمسرح مهم وغير نمطى لأعمالهم لاسيما القصصية، ولعل هذه وحدها تجعل العمل مميزا وينبغى الاحتفاء به مهما كان موقفك من القضية التى يطرحها، وهى وبالمناسبة تتلخص فى هذا السؤال البسيط المشروع والمُعجِز عن الإجابة: «هل الله هو الطقس العقائدى أم هو روح العقيدة؟»، وربما طرحه «صابر» بشكل بالغ الكثافة إلى حد الفجاجة، وعبر حكايا هى أقرب لجرعة مواقف مركزة تجعلك لأول وهلة تتوجّس لتوارى البعد الأدبى الذى كان لحضوره أن يضفى ''لذة أعمق'' للطرح الفلسفى.
النوم فى الصلاة، لغة الأحاسيس، الميراث، معروف، ورقة المأذون البالية، الحب الإلهى، الشيخ طه، الفقرى، ست الحسن، الطفل يتساءل، أين الله، هى عناوين المجموعة، والحق أنه فى الوقت الذى هاجت فيه الذقون وماجت لعبارات «السباب» التى وجهها «معروف» الفلاح غاضبا لموت جاموسته برغم ثقته المطلقة فى عدل الله ورحمته التى لا تقف مطلقا عن تفسيرات المشايخ المحفوظة والمعروفة فى قصته التى تحمل اسمه، لكن استوقفتنى عبارة «حد عايز حاجة من ربنا؟» الاستفهامية التى استهل بها الشيخ طه قصته، وهى بالمصادفة كانت عبارته الأخيرة قبل أن يلقى بنفسه فى المصرف منتحرا بعد أن ظل طوال حياته الشيخ الملتزم المجتهد فى عمله كخراط والذى أنفق «تحويشة عمره» لعلاج أمه ومداواة أخيه الذى اضطر لهجر العمل، بعد أن شاهد بعينيه «كيف يبارك الله» للفاسد «حسانين» عضو الحزب العاق طريد القرية العائد ليمتلكها ويتاجر فى دعاية فجة لنفسه بفقر «الشيخ طه»، وفى رأيى تعد هذه أقوى قصص المجموعة وأكملها وأنضجها، وأعلاها تناقضا لاذعا يقف فى تلك المنطقة الحالكة من السخرية التى لا تستطيع كناقد أن تتهم الكاتب بتعمدها، حتى أن سؤال الشيخ طه الانتحارى عاريا على حافة المصرف: «حد عايز حاجة من ربنا» يبدو فى حد ذاته تقريعا لاذعا لأهل القرية الذين لم يفعلوا شيئا حتى لحظة انتحاره فى الواقع !
مجموعة «كرم صابر» هنا إذن هى سردية مكثفة للغة استفهامية استنكارية بالدرجة الأولى لقضايا فلسفية أزلية البحث كذكورية الله وتحيز ملَئِه الباترياركى ضد المرأة وفكرة الهايراركية الدينية لصالح مجتمع ال«نوفو ريش» ومفهوم عدالة الخلق وغيرها وربما أثارت مخاوف «أبو زبيبة ف عقله» لاعتمادها وقائع لغوية متداولة فى المجتمع الفِلاحى الذى هو قوام بنيوية المجتمع نفسه ككل فى الثقافات الشرقية، حتى أن العبارات المسيئة المأخوذة على المؤلف أجرؤ أن أقول أنها كانت متداولة بالفعل بين قاع جوعى المجتمعات الفلاحية المصرية حتى وقت قريب، وليست غريبة عن ثقافته المشحوذة دينيا بحسب التوقيت المحلى لمدن الخليج!
مجددا يقف «العقل المتلقى» وحده كمعيار فردى ووحيد للتعاطى مع مثل هذا النوع من الإبداع ومع القضايا التى يطرحها، وبدون العمل على شحذ وعيه وتفعيل دوره النقدى، فلن تستطيع ألف دعوى قضائية أو قضبان سجون العالم كله على تفنيد الفِكر نفسه أو مناقشته، أما عن «اعتقاله وتحريمه» فتلك خرافة تبدو إلى جوارها «الغول والعنقاء» أمورا ممكنة!