إذا كنا لا نتفق مع «المفهوم الإخوانى» الضيق والمتزمت للفن وربطه بثقافة الحلال والحرام فإننا أيضاً لا نتفق مع الإسفاف باسم حرية التعبير والعرى والمخدرات والجنس والدعارة والحوار الفاحش، والذى صار ظاهرة متفشية وصادمة وتشكل خطراً داهماً على الذوق العام. تبدو مسلسلات الشاشة الرمضانية هذا العام محيرة فى تقييمها واستنباط سمات واضحة تميزها.. نظراً لأنها تمثل خليطاً متنافراً ومكتظاً من دراما جادة تحتوى على قضايا مهمة تعكس الواقع السياسى والاجتماعى للمجتمع المعاش والزاخر بأحداث ساخنة شهدتها البلاد بعد قيام ثورة 25 يناير وحتى وصول الإخوان المسلمين للحكم.. وأعمال درامية أخرى لا علاقة لها من قريب أو بعيد لما يدور فى مصر ويسيطر عليها الميلودراما الفاقعة والهزل الغليظ والعرى والمخدرات والجنس والدعارة والأزياء الصارخة والحوار الفاحش «والذى صار ظاهرة متفشية وصادمة وتشكل خطراً داهماً على الذوق العام ومنظومة القيم والأخلاق والتى أرى ضرورة التصدى لها بالرصد والتحليل ودراسة أسبابها الاجتماعية والنفسية من قبل أساتذة علم الاجتماع وعلم النفس» والعلاقات المثلية.. والقوادة.. والشخصيات الدرامية المنحرفة والساقطة فى أغلبهاوالتسجيل الفظ للواقع الاجتماعى المعاش ونقله إلى الشاشة كما هو بترهله وتدنيه وانحطاطه باسم الواقعية فى العمل الفنى.. والواقعية تبكى وتنتحب من جراء الإسفاف والفجاجة.
والمدهش فى الأمر ذلك التبرير المضحك الذى يواجهك به الكثير من مؤلفى ومخرجى تلك الأعمال المبتذلة والفاحشة مؤكدين سعيهم لكتابة العلامة الدالة على أن تلك المسلسلات للكبار فقط.. والمثير للسخرية والدهشة أن تلك العلامة تحمى الأطفال وتعاقب الكبار الذين لا ذنب لهم فى خدش مشاعرهم وإفساد أذواقهم والإساءة لهم من خلال كل ما هو غث ومتدنى.
وهو ما يدعونا إلى إعادة تكرار بديهة أن الفن أى فن ليس نقلاً مباشراً للواقع كما هو وإلا تحول الجميع موهوبين وغير موهبين.. مثقفين وجهلة.. خاصة وعامة إلى مؤلفين.. ولكن الفن تكثيف وارتقاء وتعبير موح وغير مباشر وبليغ للواقع واستخلاص لعلاقاته الجمالية وتركيز على مضمونه الفكرىوالنفسى والإنسانى.
وحينما تصبح المسلسلات مفصولة انفصالاً تاماً عن قضايا المجتمع وهموم أفراده بشكل يبدو وكأن المؤلفين والمخرجين والأبطال يعيشون فى زمن آخر غير زماننا.. ومنها أعمال مثل «مزاج الخير» بطولة «مصطفى شعبان» حيث يطرح موضوعاً يحمل أفكاراً تافهة ومعالجة ركيكة لمشاكل اجتماعية لا قيمة لها وألفاظا بذيئة لا ينطقها سوى السوقة والدهماء.. فإن عباءة حرية التعبير وارتفاع سقف هذه الحرية فوق المحاذير الرقابية.. يصبح مجرد ادعاء ساذج وغطاء لفشل المؤلف وعجزه عن التعبير الفنى الجميل لأن حرية التعبير لا تعنى التفاهة والبذاءة.
وإذا كنا لا نتفق مع «المفهوم الإخوانى» الضيق والجامد والمتزمت للفن وربطه بثقافة الحلال والحرام فإننا أيضاً لا نتفق مع الإسفاف باسم حرية التعبير.
لذلك فلا يسعك إلا أن تسعد سعادة غامرة بذلك المسلسل الراقى «ذات» المأخوذ عن رواية المبدع «صنع الله إبراهيم» وكتبت له السيناريو والحوار الموهوبة «مريم نعوم» وأخرجته المتميزة «كاملة أبو ذكرى» وفيه دراسة عميقة وممتعة لأوضاع الطبقة المتوسطة فى مصر فى حقبة زمنية عريضة تبدأ من الخمسينيات من القرن الماضى.. بدقة فى سرد تفاصيل حياتية ذات دلالات بليغة ولمعاناة إنسانية تجمع بين الخاص والعام.. البعد الاجتماعى وعلاقته بالمناخ السياسى من خلال صورة خلابة وحوار ذكى مشحون بثراء عاطفى أخاذ دونما فظاظة أو ابتذال أو تدن فى استخدام الألفاظ.
وكذلك مسلسل «موجة حارة» المأخوذ عن رواية للراحل الكبير «أسامة أنور عكاشة» وسيناريو ومعالجة درامية «مريم نعوم» أيضا وإخراج محمد ياسين.
ولولا جنوحه المفاجئ فى حلقاته الأخيرة إلى ميلودراما زاعقة انعدم فيها منطق سلوك الشخصيات والمتناقض مع تركيباتها النفسية والاجتماعية بل وطبيعة مهنها لدرجة الدفاع الحار لضابط شرطة الآداب المنوط به مهاجمة أوكارالدعارة عن زوجة خائنة تبيع جسدها اعترفت له بكونها عاهرة.. بل يتهم زوجها وصديقه بقتلها.
لولا ذلك لكان عملاً جيداً يرصد مشاكل مجتمع وأوجاع وطن.
أما فيما يتصل بالدراما السيكولوجية فإن التليفزيون يعرض مسلسلاً هو «حكاية حياة» أدانته الجمعية المصرية للطب النفسى لأنه كما يرون يجسد الجهل العام بعلوم الطب النفسى من قبل صانعيه.. وللأسف فإن هدفه زيادة وصمة المريض النفسى بما يجعله منبوذاً فى المجتمع.. مما يزيد من تخوف الأسرة والمريض النفسى من العلاج مما سيضاعف من معاناته ويرفع من نسب أو معدلات الانتحار.
وصور الدكتور «أحمد عكاشة» الأمر بأنه إسفاف مبنى على الحصول على مكاسب مادية على حساب المريض والطبيب النفسى.
ولتوضيح الأمر أكثر.. وإلقاء الضوء على تلك القضية المهمة يهمنا أن نشير إلى أن العامة يجهلون عادة طبيعة الأمراض النفسية والعقلية وأعراضها والفروق الجوهرية بينها.. ويخلطون خلطاً شائعاً بين المرض النفسى وسلوك الشخصية وأخلاقها وأفعالها وردود أفعالها تجاه الآخرين.. ونحن فى أغلب الأحوال نتعامل مع المريض النفسى فى إطار موقفنا من سلوكه تعاملاً اجتماعياً.. بمعنى أننا نرى سلوكه المرضى ليس سوى جزءاً من سمات شخصيته.. فالمصاب بعصاب الوسواس القهرى مثلاً يتعامل معه الناس باعتباره «نمكى».. أو محبكها شوية ولا يدركون أنه مريض يعانى من القلق والاكتئاب ولابد من علاجه.. والمصاب بالعصاب الهستيرى أو السلوك الاندفاعى والعدوانى.. يتعامل معه الناس باعتبار أنه «دمه حامى».. أو «ابن سبعة» لكن قلبه أبيض.. وهكذا.
أخيراً: لابد من إعادة النظر فى تلك الأعمال الدرامية لخطورة تأثيرها السلبى على المتلقى.