سألنى كاتب درامى شاب فى بداية الطريق، يبحث عن مكان له على الشاشة الصغيرة: كيف يتسنى لى أن أصبح مؤلفاً شهيراً يشار لى بالبنان، وتستضيفنى القنوات الأرضية والفضائية، وتسألنى المذيعة الحسناء عن أحب أنواع الطعام إلىًّ، وما إذا كنت أميل إلى التفاؤل أم التشاؤم، وهل أومن بالأرواح والجن والعفاريت أم لا؟! وهل أعشق الفانلة ا لحمراء وأشجع الشيخ «أبوتريكة» أم أنى والعياذ بالله من أنصار الأقلية البيضاء الذين يهزمون بالليل والنهار والصيف والشتاء وكل الفصول، ومن هم أحب النجوم إلى قلبى؟!... ومن هى النجمة التى أحلم بأن أعمل لديها «ترزيا» أو «رفا». ومستعد لتوصيل الحبكة الدرامية إليها بطريقة «الهوم دليفرى»، وهل رؤية «غادة عبدالرازق» حلال أم حرام، وما رأيى فى مستقبل السينما غير النظيفة، وهل سيكون مثوى أصحابها جهنم وبئس المصير، حيث النار التى لا تنطفئ... والدود الذى لا يموت؟! وطبعاً لن أنسى فى نهاية اللقاء أن أشيد بعبقرية إدارة المذيعة للحوار، وجمال طلتها، وبهاء حضورها المتوهج مقارنة بانصراف الأخريات.. كما سأدعو لها بدوام الظهور والتألق والاستمرار... ثم عاد إلى السؤال: بماذا تنصحنى؟!. قلت له: ألاّ تسمع نصيحتى.. نظر إلى بدهشة واستنكار متصوراً أنى أسخر منه. فأسرعت موضحاً: - افهمنى يا ابنى.. أنا لا أريد لك أن تفشل، وتلعن اليوم الذى استمعت فيه إلى.. سوف أتسبب لك فى ضرر بالغ إذا نصحتك بالقراءة الجادة فى شتى أنواع المعرفة، وفى العلوم الإنسانية والفنون المختلفة، وأن تتذوق الشعر، وتستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، وترتاد معارض الفن التشكيلى، وتشاهد أفلام السينما العالمية الجادة، وتدرس فلسفة الجمال والمدارس الفنية المختلفة، وتتابع حركة الرواية والقصة القصيرة المعاصرة، وقبل كل ذلك تدرس الدراما منذ «أرسطو» مروراً «بشكسبير» و«أبسن» وحتى مسرح العبث.. ثم تكتب بعد ذلك متسلحاً بموهبتك أولاً... ثم لفهمك لمعنى «البناء الدرامى» من رسم للشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية والجسمية المختلفة... وإنشاء الصراع، وتأليف الأحداث وتصعيدها إلى الذروة.. وصولاً إلى حل الصراع، وكتابة الحوار الذى ينبغى أن يكون ذكياً ولماحاً ومكثفاً وبليغاً، وملائماً لبيئة وثقافة ومهنة ومستوى الشخصيات الاجتماعى.. لا ينحدر إلى مباشرة وخطابية ووعظ... أو إسفاف وسوقية وابتذال، بل يرتفع إلى مستوى الشعر، ويعلى من ذوق ووعى المتلقى.. على أن يكون موضوع الدراما يناقش قضية اجتماعية أو سياسية أو فلسفية تشغل المجتمع أو الإنسانية عموماً، ومعالجته فى شكل فنى مناسب.. كوميدياً كان أو تراجيدياً.. تحقق الوحدة والشكل والمضمون والانسجام بين الإطار والمحتوى فى إيقاع متناغم، يتناسب والهدف من الدراما المطروحة، ويبرز القيمة الفكرية والذهنية للعمل فى ثوب من المتعة البصرية والجاذبية الفنية. إنك لو فعلت ذلك فسوف يلقى المنتج بأوراق السيناريو فى وجهك، ويطردك مشيعاً بلعناته. - وماذا أفعل إذن؟! - عليك أن تكتب ملخص قصة تافهة من صفحتين متعمداً أن تصوغها بأسلوب ركيك... مستخدماً عبارات فجة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية، ويستحسن أن تكتبها بالعامية، وأنت جالس على مقهى بحى شعبى لزوم الالتحام الجماهيرى والتأثر بمفردات حوارية لاذعة من قاموس لغوى جديد فرض نفسه على الشارع المصرى هو مزيج من رموز سوقية مبهمة وقفشات فظة منحطة، ولزمات غليظة متدنية تحتشد بكل سلبيات الشخصية المصرية فى واقعها المعاصر والمتغير. يجب أن تراعى أن تكون القصة مناسبة لنجم أو نجمة من أصحاب الأجر الملايين لزوم التسويق، وعليك بميلودراما تنسف كل منطق... وتخاصم كل عقل، وتتعفف عن مناقشة أى قضية لها قيمة حقيقية، واسع إلى كل فعل أو سلوك قبيح تقوم به الشخصية الدرامية، وألق عليه الضوء وأبرزه وجسده فى كل مشاهد الحلقات.. فالمتلقى سينصرف عنك إذا استشعر شبهة قيمة جمالية تسعى إليها... فقد اعتاد القبح فأصبح بالنسبة إليه هو الجمال.. كما أن عليك أن تبتعد تماماً عن طرح أى تفاصيل خارج «السياق الأخلاقى» بمعناه الضيق، ذلك السياق الذى تعيش فى كنفه منذ سنوات اختلط فيها الخطاب الفنى بالخطاب الدينى، وأصبحت المحظورات أخطبوطاً ذا ألف ذراع توشك أن تطبق على الأنفاس بل إنها فى سبيلها إلى إطفاء شموع الحضارة.. لابد إذن أن تتقى شر «المكفرين» ودعاوى الحسبة من الدعاة والكهنة، ولا تنسى أن المنتج الذى تحمس لك وأشاد بعبقريتك قبل عرض المسلسل سوف يتنكر لك بعده وينضم إلى طابور لاعنيك، ولا تستبعد أن يطالب بقطع يدك الآثمة التى ارتكبت كتابة سيناريو «المعصية»، بل ربما يطالب بقطع يديك ورجليك «خلف خلاف». وحذار أن تردد كلمات الفاشلين من المثقفين مثل «البناء الدرامى» أو «المضمون الفكرى» أو «الحتمية الاجتماعية» أو «براعة الاستهلال» أو «تعدد مستويات الرؤية»، أو تشابك الخاص مع العام فى جدلية حميمة، بل قل : عندى ورق - لا مؤاخذة - زى الفل.. مع التأكيد أن الملخص ليس سوى «العضم» وبعد كده حاتكسيه «لحم»، أى تكتب السيناريو بعد التعاقد ونهاره أبيض بإذن الله. إذا حازت القصة على إعجاب النجمة فلن تكون هناك أى عقبة، فسوف يستقبلك المنتج بالأحضان والقبلات ويتعاقد معك بمبلغ مغرٍ... ويسفرك مع فريق العمل إلى دولة أوروبية كام يوم حلوين.. «فول بورد» إذا ما تضمنت أحداث العمل مشاهد بالخارج. كما سوف تضمن عرض مسلسلك فى أفضل أوقات المشاهدة فى الأوقات المميزة.. و«سطح توصل للسطح»، و«انسى وخذ البنسة» و«الرزق يحب الخفية». وسوف تقام الاحتفاليات البهيجة والتكريمات المبهرة من قبل جمعيات «الروتارى» المختلفة وبرامج «التوك شو» المتنوعة.. وسوف تنسب فيه النجمة المحبوبة المتألقة المسلسل إليها.. فهى المسئولة عنه أمام جماهيرها الغفيرة متجاهلة تماماً أن العمل الدرامى ينسب إلى مؤلفه نسب «الابن» إلى «الأب» وبنص قانون الملكية الفكرية، ولا ينسب أبداً إلى ممثليه.. وما عليك إلا أن تهز رأسك بالموافقة منفرجة أساريرك عن ابتسامة بلهاء مؤيدة راضية بقدرك التعس ومكانتك البائسة.. ذلك لأنها للأسف محقة فى ادعائها هذا.. لماذا؟!.. لأن المفهوم الشائع لمهمة المؤلف الدرامى مازال يتوقف عند الأغلبية من الناس عند حدود الصنعة أو «الحرفة» التى يمكن تعلمها، وليست فكراً وفناً وإبداعاً وعلماً وموهبة وثقافة ودراسة أكاديمية متخصصة.. وبطبيعة الحال فإن الصبى «بكره يبقى معلم».. وما أكثر الصبيان.. فالمهنة بهذا المفهوم شملت عدداً وفيراً من معدومى الموهبة والأرزقية... ولاعبى الثلاث ورقات واللصوص والمخبرين الصحفيين... وعابرى السبيل والمرضى النفسيين.. والكثير منهم لم يقرأ كتاباً واحداً فى حياته، بل إنى أكاد أجزم أن بعضهم لا يجيد - أصلاً - الكتابة والقراءة.. وأغلبهم لم يدرس فن كتابة السيناريو دراسة أكاديمية متخصصة.. فلا يعرف أحد أين يذهب خريجو قسم السيناريو بالمعهد العالى للسينما كل عام، كما أن بعضهم خارج من ورش السيناريو لبعض الكبار الذين شوهوا نفوسهم بشراء أدمغتهم وابتزاز حقوقهم فتحولوا إلى شخصيات كارهة للحياة، حاقدة يحتاجون إلى علاج سلوكى نفسى طويل ليصبحوا أسوياء أولاً قبل أن يبدأوا فى الكتابة وينقلوا عدوى أمراضهم النفسية إلى المتلقى المسكين.. وفى زمن سطوة الإعلان وشروط التسويق التجارية المرتبطة بالنجوم يبرز الصبية ويتوارى الأسطوات لأن المبدع ثقيل الظل، صاحب فكر، بطىء الإنجاز، نمكى، كثير الجدل، يعمل بعقله، غاوى فلسفة، وله كرامة، ولديه شروط فى التعامل ولا يقبل التنازل.. ويتوارى «الأسطوات» بتحول دور المؤلف إلى «ترزى» والمخرج إلى «سفرجى» والمنتج المشارك إلى «سمسار» أو مقاول من الباطن، والمشاهد المسكين إلى متلقٍ سلبى لا حول له ولا قوة، وقد استغفله الجميع