الفريق أسامة عسكر يلتقي مدير عام فريق الموظفين العسكريين لحلف شمال الأطلنطي    حجازي أثناء لقاء مسؤولي بيرسون: تدريس اللغة الأجنبية الثانية في الإعدادية لأول مرة    وزارة السياحة تدفع بلجان لمعاينة الذهبيات الموجودة بين الأقصر وأسوان    نادي الأسير الفلسطيني: سلطات الاحتلال تفرج عن المعتقلة فادية البرغوثي    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    مدرب ليفربول الأسبق يوجه نصائح مهمة ل آرني سلوت قبل قيادة الفريق    حالة الطقس غدا الأربعاء 22-5-2024 في محافظة الفيوم    تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ومجلس أمناء مكتبة الإسكندرية (فيديو وصور)    رئيس مكتبة الإسكندرية: الرئيس السيسي يلعب دورا كبيرا لتحقيق السلم بالمنطقة    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    ضمن حياة كريمة، قوافل طبية مجانية بواحات الوادي الجديد    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    أسوان تستعد لإطلاق حملة «اعرف حقك» يونيو المقبل    يورو 2024 - رونالدو وبيبي على رأس قائمة البرتغال    والدة مبابي تلمح لانتقاله إلى ريال مدريد    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    محكمة بورسعيد تقضي بالسجن 5 سنوات مع النفاذ على قاتل 3 شباب وسيدة    زوجة المتهم ساعدته في ارتكاب الجريمة.. تفاصيل جديدة في فاجعة مقتل عروس المنيا    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: مصر المكون الرئيسي الذي يحفظ أمن المنطقة العربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمل فى قصص الحب؟
نشر في صباح الخير يوم 25 - 05 - 2010

إن كنت قد سألت نفسك فلسوف تجد عشرات الإجابات، منها أن خالق الأكوان فى واحدة من الحضارات القديمة قد صفق بيديه فخرجت أجنحة الملائكة لترفرف، فيصدر منها حفيف ترقص له قطرات السحاب. وكأن قطرات السحاب الممطر المتساقطة على الأرض قد صارت نقرات على طبول دقيقة رقيقة، ثم جاء إنسان الغابة كى يصطاد غزالا يمرح أمامه، وفكر الصياد قليلا، فحاول اللعب بالسهم الذى سيصطاد به الغزالة فنفخ فى طرف منه، فأصدر صوتا كأنه الناى، وهنا جاءت الغزالة لتركع تحت أقدامه هامسة له: «مادمت تملك القدرة على أن تصعد بروحى إلى آفاق لم أعرفها من قبل، فمن حقنا أن نعقد الصداقة معا، فتتنازل أنت عن الفتك بى وأتنازل أنا عن الهرب منك».
لكن الموسيقى الرائعة فى روايات محمد ناجى تختلف عن مثيلاتها التى جاءت فى لحظات الخلق الأول، لأنها _ فى غالبيتها _ تنبع من آهات الضغوط التى مارسها ويمارسها أهل السلطان على العباد، فهى موسيقى تسنتجد بالأمل لعله يأتى بقوة هرقلية كى يرفع أحذية الواقع والوقائع من على أعناق البشر المقهورين، لكن لا الأمل بقادر على الإشراق، ولا صيحات الأنين بقادرة على أن تسمع من تقوقعوا فى قبور اللذائذ. فهم يتلقون العقاب بألا يسمعوا سوى طبولا زاعقة تعزفها رغباتهم التى لا ترتوى، ولا يبقى أمام القطيع البشرى، سوى السباحة فى ضحكات من يأس وعجز ومحاولة القفز على الآلام. ومن تلك الرحلة تنبع موسيقى هائلة تكاد أن تسمعها بأذنيك ومشاعرك، فتبحث عن عازفيها فلا تراهم، وتبحث عن أماكن عزفها، فتجدها مرة فى أعماقك وأخرى من حولك، أو تراها وهى تخرج من عيون وكرمشات وجوه البشر الذين يأكل بعضهم بعضا بين ضحكات مودة أو دموع افتراق.
وكل تلك المعانى تنفجر فى أعماقى كلما قرأت عملا روائيا من إبداع الفنان محمد ناجى الذى يندر وجود نظير له فى شفافيته، تلك الشفافية التى يرصد بها تفاصيل حياتنا.
وعندما أكتب ذلك فأنا واثق مما أقول بحكم متابعتى لغالبية الأعمال الروائية على كثرتها فى زماننا، وأعلم أن «المهارة فى الصنعة» قفزت بالأعمال الروائية إلى درجات عالية، ولكن قلة قليلة من الأعمال هى التى عانقت مشكلاتنا وعبرت عنها، وتدفقت ببساطة لها أعماق وأبعاد عديدة، وفى نفس الوقت امتلكت حكمة التوازن بين المهارة والدفقات العاطفية التى تجعل من الفن إبداعا، لا مجرد صنعة تلمع كفقاقيع الصابون لتنفجر بلا بقاء فى عمق الذاكرة ولا تقوم بما يحب الفن القيام به وهو تطهير الروح بمزيد من الفهم للواقع.
وعلى رأس تلك القلة القليلة من الأعمال تأتى روايات محمد ناجى، سواء من بدايتها وهى رواية «خافية قمر» ثم تليها «لحن الصباح، لتأتى من بعد ذلك رواية «مقامات عربية» ثم «العايقة بنت الزين» ويليها «الأفندى»، ثم حكاية «رجل أبله وامرأة تافهة»، وأخيرا جاءت «ليلة سفر».
ورواياته_ كأسلوب حياته_ يذكرنى بالمترفع الجليل أستاذى فتحى غانم الروائى الذى كان يحتقر _ بصمت وسلوك عملى _ ذلك الاعتماد على العلاقات الاجتماعية ولعبة الانتشار بما تضمنه من تحالفات ومقاربات تقترب من الصفقات، وكان يرى ذلك لعبة ركيكة لا تستحق أن نتوقف عندها ولا أن ندخلها، فمن المهم أن نعبر عن أنفسنا دون أن نهدر الوقت _ أو الكرامة _ فى لعبة احتراف نشر الأخبار القصيرة عن الروائى فلان الفلانى أو محاولة نشر دراسة فنية أو أدبية عن رواية قد لا تصل إلى قمة إبداع تستحق الوقوف عندها. بل لم يدخل فتحى غانم فى مزاد تقديم حياتنا اليومية كمائدة شهية لعرض غرائب الشرق التى يمكن أن يلتفت لها مترجمو الأدب العربى إلى اللغات الأخرى، وهى لعبة صارت شديدة الوطأة على ضمير كتابنا المعاصرين، منهم من استسلم لها ومنهم من لم يرضخ لشروطها.
وقد عاش فتحى غانم مع الترفع عن كل ذلك على الرغم من أن واحدا من كبار المترجمين المهتمين بالأدب العربى أظنه ديمزمنت ستيورات إن لم تخنى الذاكرة وهو من ترجم أكثر من رواية لفتحى غانم ،وكانت دور النشر الإنجليزية على وجه التحديد تسرع بنشر ترجمات فتحى غانم، قبل أن يبرق أدب نجيب محفوظ فى دنيا الترجمة بعد فوزه بجائزة نوبل.
ومنذ أن قرأت محمد ناجى، وأنا أشعر أنه يملك نفس الصفاء فى التعامل مع إنتاجه الأدبى فلا يسرع بنشر الأخبار الصغيرة ولا يلتفت إلى مسلسل الدعاية الركيك الذى يحترفه البعض للبقاء على دائرة من ضوء لن يدوم بالتأكيد.
هل أقول إنى كلما التقيت بمكرم محمد أحمد فأنا أقدم له التحية أكثر من مرة، إما بسبب أنه رئيس مجلس الإدراة الوحيد الذى مر على المؤسسات الصحفية دون أن تلمس ثياب كرامته إشاعة واحدة عن تصرف مالى شائن أو عن سوء سلوك مهنى جسيم. ولعل السبب الأكثر أهمية أنه كان أول من نشر روايات محمد ناجى على صفحات المصور، بداية من «مقامات عربية»، واستمر الحال من بعد ذلك حتى نشر عبد القادر شهيب رئيس مجلس إدارة المصور رواية «سكة سفر».
ومازال فى الذاكرة ذلك الصباح الربيعى، الذى كنت على موعد فيه مع عماد الدين أديب فى الأيام الأولى لإصدار جريدة العالم اليوم. وكعادة عماد أديب معى كلما التقينا أن يسألنى عن قراءاتى، فحدثته عن شغفى برواية لا أظن أن لكاتبها نظيراً ممن يكتبون بالعربية، فهو يبدو كدارس للموسيقى الكلاسيكية، حيث يعرفون الموسيقى بأنها تعبر عن الحقائق الحياتية والروحية التى تعجز الكلمات عن التعبير عنها، وإنى مندهش على قدرته على تعرية عالمنا العربى بكل تلك القسوة الساخرة، فسألنى عماد الدين أديب عن اسم الرواية واسم الروائى، فأجبته: هى رواية «مقامات عربية» وكاتبها هو محمد ناجى وتنشر فى مجلة المصور. وفاجأنى عمادالدين أديب، بأن رفع سماعة التيلفون ليقول «أستاذ محمد عندى زائر معجب بروايتك التى تنشرها المصور»، وابتسم عماد الدين أديب ليخبرنى أن الروائى الذى يدهشنى أداؤه الفنى هو مدير تحرير جريدة العالم اليوم.
وهكذا بدأت قصة تعارف بين قارئ عجوز يعود شابا مع كل عمل فنى يستمتع به، القارئ هو أنا، أما الكاتب المدهش بعمق بصيرته فهو محمد ناجى لتتوالى معى حكاية رؤية الموسيقى وكأنها لوحات تنبع من المعانى التى قد لا تبرزها الكلمات بشكل مباشر، ولكنها تبدو واضحة فيما بين السطور لتملأ الروح تماما، وتجعل البصيرة ذات قدرة كاشفة لما عشناه من ظروف ضاغطة.
وكان لابد أن يكون هذا هو حال محمد ناجى الكاتب الذى تخرج فى الجامعة بعد عامين من الهزيمة الساحقة فى يونيو عام 1967، ليلتحق بالقوات المسلحة ويرى رأى العين كل ما جرى من موقع الحياة مع خلاصة النسيج المصرى من رجال وقع عليهم عبء ميراث ما جرى فى بر مصر من أيام المماليك إلى أيام السخرة أيام محمد على ليبنوا له القصور ويقيموا الدولة المصرية الحديثة، ثم يتوالى دمهم المختلط بعرقهم ليحفروا قناة السويس، ليأتى من بعد ذلك عرابى باشا الذى تحول من باحث عن ترقية إلى قائد يقاوم قوات الاحتلال، ثم تتوالى القصة بنزيفها الذى ننسى أنه مكتوب فى خلايا أى مصرى يمشى على قدمين، لنعيش فى أيام الأحزاب السياسية بداية من الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل الذى جعل قبلته فى الولاء لتركيا، وليصحح ضجيج خطاباته ذلك المغضوب عليه من القصر والإنجليز فى آن واحد محمد بك فريد خلاصة الحلم المصرى الذى امتلك رؤية صافية لمصر المستقلة المعتمدة على نفسها دون هوان،
فمات غريبا فى البلاد الغريبة، ليأتى من بعده أشهر لاعب أكروبات سياسى فى التاريخ المصرى المعاصر وأعنى به سعد زغلول الذى أغرق مصر فى الحماسة إلى الدرجة التى توهم فيها المصريون أن القطار عندما يسير، فعجلات القطار عندما تحتك بالقضبان تصدر صوتا هو «تسشن.. تسشن» وفسر المصريون من أهل الريف أنه حتى الحديد ينطق قائلا: «يحيا سعد» وقد سمعت ذلك بنفسى من خال والدى الذى تحمس لسعد باشا، ثم طلق السياسة من بعد رحيله مباشرة. ولم يلتفت الناس فى بر مصر المحروسة إلى أن القائد الفعلى لثورة 1919 هو عبدالرحمن فهمى الذى جمع التوقيعات كتوكيل لسعد، ثم كان يقود خطواته وهو فى المنفى عبر الكتابة له من القاهرة بالحبر السرى. ثم جاء النحاس باشا الطيب ليعتلى موقع القيادة فى حزب الوفد، وليترهل الحزب من بعد ذلك إلى أن قامت ثورة يوليو 1952.
وفى كل مرحلة من مراحل التاريخ المصرى يمكنك أن ترى التجار والبهلوانات، وألاعيب النساء ومصارع العشاق. وتجمع كل ذلك فى خلايا المصريين الذين بدأوا رحلة الدفاع عن وجودهم الحى بعد هزيمة يونيو 1967، وكان على محمد ناجى _ وهو واحد من بين هؤلاء الذين عاشوا فى الخنادق مع التدريب على القتال _ أن يقرأ ويفهم ويستوعب ما يمكن أن نجده مختزلا فى حروف كتب التاريخ بزيف بعضها وصدق البعض الآخر.
والأمر المؤكد أن موهبته الروائية صارت أكثر قدرة على الاختمار ثم التوهج بعد أن عاش سنوات الخنادق وأيام القتال، ثم تأتى له سنوات من اغتراب عمل خلالها فى الخليج ليعود دون أن تترهل روحه، بل ليزداد تألقا.
ومن يرغب فى معرفة كيف استطاع محمد ناجى استخلاص موسيقاه الروائية، فليتابع أعماله من بدايتها وحتى آخرها «ليلة سفر».
وتكاد صفحات «ليلة السفر» أن توجز العبث السياسى بأقدار المصريين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى زمن سفر الشباب بلا عودة بحثا عن عمل فى بلد عربى، أو حين يلقى الشاب بنفسه فى قارب معرض للغرق.
فهناك الرجل الذى بدا فى الرواية كمخزن للأحلام المهشمة المدعو «نديم أفندى» الذى تقلبت به أنواء سياسة ما قبل يوليو بين الأحزاب، وكان آخرها الحزب السعدى الذى رأسه النقراشى باشا، ومن قبله كان حزب الوفد الذى رأسه النحاس باشا.
ونديم أفندى هو ذلك الذى تشعلقت حياته بقدم فى المدينة وقدم فى القرية، ولايجد سببا لوجوده سوى خدمة أهل القرية ومحاولة التواجد على خريطة الثرثرة السياسية التى كانت تغمر مصر من أقصاها إلى أقصاها، ثرثرة بين بشر يبحثون عن المخلص، ولكن بما أن الكون لم يحتمل إلا مسيحاً واحداً، لذلك لم يكن هناك سوى النوع المبتسر من الزعماء الذين يتشابهون مع الأراجوزات، حيث يعطى الواحد منهم جموع البشر حلاوة اللسان، ويعطى السفير البريطانى حلاوة الرضوخ وفى نفس الوقت يرضخ للقصر، وبين رضوخ ورضوخ كل واحد من هؤلاء الزعماء فى جمع الثروات أو نهب الواقع بما يضمن لهم قليلا من الاطمئنان. ويحاولون جمع رضوخ الجموع بالشعارات، فإذا كان الآباء قد هتفوا ذات نهار: «الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد يكن، فالورثة لسعد باشا انقسموا شيعا وقبائل، يمسكون بأيديهم الوظائف الحكومية الصغيرة يبعثرونها على الأتباع.
ولم يكن «نديم أفندى» سوى واحد ممن آمنوا بسعد ثم بالنحاس ثم بالنقراشى، سار فى كل طرق الساسة ففقد الإيمان؛ بعد أن سمع من أى منهم نصائح متضاربة تصنع أقدارا مختلفة وإن تشابهت مساراتها لا نهاياتها. ولم يعد له فى الدنيا سوى ابنة أنجبها وسماها «غالية»، وألقت الظروف فى طريقه بالشاب عبد القوى الباحث عن مستقبل. ولأنه من أبناء القرية وتعلم قليلا فقد التقطه نديم أفندى كى يهيئ لابنته عريسا له وظيفة، ويطمئن عليها. وكان عبدالقوى من الحرص البالغ، فلا يسير خلف نديم أفندى إلا متخلفا بنصف خطوة كيلا يضع قدمه فى الهواء. واستطاع نديم أن يهيئ لعبدالقوى وظيفة وسكنا، وساقه إلى تكوين أسرة مع الابنة «غالية» التى ما لبثت أن دق بطنها الحمل، لتنجب قطعة من اللحم اسمها «مصطفى» ثم تموت من بعد ذلك.
وينحنى «عبدالقوى أمام رياح الظروف كى يكبر مصطفى الذى شرب من يأس جده _ عبر الخريطة الجينية، ما يجعله لاهيا لاهثا وراء متعه الصغيرة، لتقوده ظروف الحياة إلى السويس ليتزوج ويعيش فيها ويرقص على السمسمية. ويمكن لقارئ الرواية أن يجمع مشهد مصطفى مع مشهد اللهو عند الجد نديم أفندى، فقد رقص الجد رقصته الكبيرة يوم زفاف «غالية» لعبدالقوى، ويومها برقت فى عين نديم أفندى بقعة سوادء، هى الإفلاس المميت، فقد استدان الرجل ورهن بيته فى القرية، ثم انزوى قليلا ليموت منتحرا؛ فلا يصلى عليه سوى قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ولا يصل خبر موته إلى زوج ابنته إلا بعد انقضاء وقت غير قليل.
وأيضا يأتى الموت لمصطفى ابن عبدالقوى بإجراء مختلف، فقد كان يعيش فى السويس أثناء العدوان الثلاثى، وكانت القنابل الحمقاء تسقط تباعا، فيموت مصطفى وزوجته وينجو نصر الحفيد الباقى لعبدالقوى، فيحمل عبدالقوى متاعب تربية الحفيد إلى أن يتخرج فى كلية العلوم، تلك الكلية التى ترتفع قيمتها فى كل بلدان الكون إلا بلدنا، فهى كلية تخرج المدرسين عندنا أو من يشغلون وظيفة «فنى معمل» بوزارة الصحة، تلك الوزارة التى سار فيها عبدالقوى وصعد ترقياتها بحذر المنتبه إلى ضرورة نصف خطوة للأمام كيلا تقع فى مطب.
ثم يقرر نصر أن يتزوج من زميلة ممرضة التقاها فى دهاليز وزارة الصحة، تريد أن تبنى بيتا وأسرة، بعد أن تبدد الحلم فى أن تلتقط طبيبا كزوج لها. وحين يحاول نصر إقناع جده بأن يقبل فكرة زواجه وأن يمكث معه فى نفس الشقة، تخرج الآهة التى تعبر عن كل جراح حياته فيقول: «طول عمرى لحمى لغيرى» ويرفض أن يكون ضيفا فى بيته مع الحفيد ومن أرادها زوجة له. عبر الرواية نتعرف على عائلة الخواجة عدلى القبطى الذى كان يملك البيت، وهو من كان يرفض تأجير الشقة الفاضية لعبدالقوى. ولكن ظروف التجارة التى يعمل بها عدلى وتقلبات الزمن والسوق قادته لبيع البيت إلى تاجر جشع اسمه بسيونى، وهو من يقبل تأجير الشقة لعبدالقوى. وظل الخواجة عدلى محتفظا بمسافة بينه وبين جاره عبدالقوى، لكن ظروف الحياة تجبره على ضرورة البحث عن صحبة فى مواجهة غدر الزمن المتمثل فى مرض الزوجة وكبر الأبناء، الابن وليم الذى كون عائلة وابتعد، والابنة كوكب التى تعمل بالتدريس وتعيش على حلم حب خائب مع مدرس رسم لا يلتفت إليها على الرغم من أنها اشترت خيوط صوف لتغزل له كوفية لا تتم أبدا.
وتتقدم كوكب فى العمر لتشهد مع وحدتها أحلام الانضمام إلى العذارى الشهيدات بالتاريخ القبطى. وتشهد أيضا تسلل الشاب نصر حفيد عبدالقوى وهو يتسلل إلى الشقة ومعه سهام الممرضة ليدور عناق الحب. وعندما تنهره يعلن لها أن سهام خطبيبته. وعندما تشكوه لجده، فالجد لا يستطيع سوى رفض فكرة زواج الحفيد معه فى نفس الشقة.
ثم يأتى الزلزال، ليظهر شق واضح بين شقة كوكب وشقة عبدالقوى. ويكاد كل منهما أن يتعرف على كل تفاصيل حياة الآخر. يعلم عبدالقوى تفاصيل أطماع وليم شقيق كوكب فى الشقة بعد أن مات الخواجة عدلى، وتعلم كوكب تفاصيل رفض عبدالقوى زواج حفيده معه.
ولأن الزلزال أعاد الخوف مرة أخرى لقلب عبدالقوى لذلك نراه يتوسل بالرجاء لحفيده أن يتزوج معه فى نفس الشقة، ولكن الحفيد يقرر الرحيل. إلى أين؟ نحن لا نعرف فقصص رحيل الشباب تعددت وتنوعت. ويعلن لجده أنه صرف النظر عن فكرة الزواج كلها.
ولأن الزلزال قد جعل البيت كله مهيأ للسقوط وأن المالك بسيونى قد استصدر أمر إزالة للمنزل، لذلك كان بيع البيت إلى تاجر آخر أكثر ضرواة وشراسة هو المستقبل الذى ينتظر من كلاًّ كوكب وعبدالقوى.
ويرحل الحفيد إلى حيث لا نعلم ونلمس من سطور الرواية أنه ترك جنينا فى أحشاء الممرضة سهام التى تنتظر منه برقية بعقد عمل؛ كى تلحق به.
وحين يغرق عبدالقوى فى الضياع يلتفت إلى شخصية موجودة فى الرواية تبدو بلا ذاكرة هى شخصية صنارة، عبيط الحى أو الأبله الذى يعلم أكثر من الجميع ويزدريه الجميع ويحتاجه الجميع أيضا.
وفى ليلة ممطرة يعود عبدالقوى إلى البيت مبللا فتأخذه كوكب إلى الحمام لتجففه، فقد اقترب الاثنان عبر الشيخوخة لنرى كيف دفع القهر والألم اثنين إلى الامتزاج.
أعلم أنا كاتب هذه السطور أن أى محاولة لتلخيص عمل روائى بدقة وروعة أعمال محمد ناجى هى ضرب من الخيانة المجترئة على نقاء الفن، فلو كان من السهل أن يتم تلخيص الرواية لكتبها محمد ناجى ملخصة، فالمسافة بين جملة وأخرى فى روايات ناجى تمتلئ بعشرات ما لا يقال، فكيف يمكن تلخيصها إذن؟! لقد أقدمت على التلخيص الخائن، من فرط رغبتى فى تناول بعض من تفاصيل حياة البشر الذين غرر به ويغرر بهم أرجوزات السياسة على الساحة المصرية قديما وحديثا، فلم يعد لمن خاضوا رحلات تصديق الأراجوزات سوى العرى تحت زخات مطر القسوة النازف كل نهار.
وإذا كان محمد ناجى يستعد الآن لعملية تغيير الكبد بمستشفى ما بباريس، فكل أملى أن تهبه السماء نجاة كى ينجينا بشجن موسيقاه التى تكشف لنا كم وقعنا فى أحابيل من أرادوا تلخيص الأوطان فى أشخاص مهما علت قاماتهم، سواء أكان الشخص عرابى أو سعد زغلول أو جمال عبدالناصر، فليس أمامنا سوى أن نشترك جميعا فى صناعة واقع مختلف.
أما كيف يحدث ذلك؟
فأستطيع أن أقول إن الخطوة الأولى تبدأ من أن نرفض تصديق الأراجوزات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.