أجدادنا الأفاضل تركوها لنا حكمة: (كن جميلاً تر الوجود جميلاً).. ولكن ربما لو عاشوا زماننا لقالوا: (كن طيباً يراك الآخرون عبيطاً) فكثيرا مايضطرك الآخرون إلى التصرف بعكس ما تريد فما بين القسوة والحزم شعرة رفيعة وما بين الطيبة والرخاوة شعرة أرفع.. ولكن الذكى هو من يستطيع أن يرى بوضوح أبعاد هذه الشعرة بدقة فلا يقع فى الفخ. عندما يتولى أحدنا منصباً ما، يظن أنه من مستلزمات المنصب أن يأمر وينهى.. ويزجر وينتهر.. ويتعالى وينظر إلى الآخرين من فوق. وهكذا يفقد وداعته وتواضعه أيضاً.. وتنتابه روح التسلط والقسوة، ظناً منه أن الآخرين لن يحترموه إذا وجدوه طيباً وديعاً! ولكنه مخطئ فى هذا التصور فليست المناصب العليا أمراً مانعاً للطيبة والوداعة فهناك عظماء ودعاء طيبون أيضاً ، مثل موسى النبى الذى قيل عنه «كان الرجل موسى حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض».. ومثل داود النبى الذى قيل عنه «اذكر يارب داود وكل دعته» أى طيبته وخصاله الحسنة.. لكن الذى يستغل المنصب والقيادة استغلالاً خاطئاً. فهذا هو الذى يفقد طيبته ووداعته.. وكذلك من يستغل الغنى والمال.. ومع ذلك يوجد أغنياء كثيرون طيبون ومتواضعون.. يختلطون بالفقراء فى محبة وبساطة ويسعون لحل مشاكلهم فينالون حبهم واحترامهم معاً. وقد يفقد البعض فضيلة الطيبة والوداعة إذا ماحاولوا إصلاح الغير بطريقة خاطئة.. يظن هؤلاء أن الإصلاح لا يكون إلا بالعنف والشدة. أو أن الدفاع عن الحق لا يأتى إلا بالتشهير وإدانة المخطئين أو من يظنونهم مخطئين! وذلك بسبّهم علناً وتحريض الناس ضدهم، والساحة زاخرة بأمثالهم الآن، مشكلة أولئك وأمثالهم أنهم يفقدون وداعتهم.. ويرتكبون العديد من الخطايا.. دون أن يدركوا ذلك.. بل على العكس يفتخرون بما يفعلون! وأكثر من ذلك يحسبون أنفسهم أبطالاً ومصلحين..! يذكرنى هذا بأشخاص يُعهد إليهم بتنظيم أحد الاجتماعات وباسم العمل على حفظ النظام.. ينتهرون ويصيحون.. بل يمنعون ويطردون.. ويستخدمون كل القسوة فى عملهم.. وأحياناً لا نسمع أى ضوضاء فى الاجتماع. إلا ما يصدر من أصوات المنظمين!!.. فلماذا لا يعمل أولئك على حفظ النظام فى هدوء وفى غير عنف؟! لماذا لا يقلدون الراعى الذى يستخدم عصاه فى تنظيم سير الغنم. بمجرد الإشارة واللمس والتوجيه. دون أن يضرب؟! وقد يفقدها البعض الآخر باسم الصراحة وقول الحق ، وبحجة الصراحة يجرح شعور الآخرين بطريقة منفرة ومؤذية.. والعجيب أنه يقول فى افتخار: «أنا إنسان صريح. أقول للأعور: أنت أعور.. فى عينه».. ولكن لماذا يا أخى تجرح هذا الشخص وتؤلمه. بصراحتك هذه الخالية من المحبة ومن اللياقة؟ أما كان ممكناً أن تستخدم أسلوباً آخر.. تراعى فيه إحساسه.. ولا تفقد فيه الرقة والوداعة؟ .. إن السيد المسيح كان رقيقاً فى التعامل مع كثير من الخطاة والخاطئات.. وبلطفه اجتذب كل أولئك إلى التوبة.. وإلى الإيمان.. ويدخل فى موضوع الصراحة أيضاً لون من العتاب فقد يوجد إنسان - بالعتاب - يربح أخاه بينما آخر يفقد الوداعة فى عتابه. فيفقد صديقه !! شخص آخر يفقد طيبته بسبب الحزم .. والحزم ليس معناه بالضرورة العنف. فما أسهل أن يكون الإنسان حازماً ووديعاً أيضاً يأخذ موقفاً حازماً. وفى نفس الوقت يشرح سبب هذا الحزم بطريقة مقنعة لا تفقده محبة من يستخدم الحزم معهم. مثلما يفعل الأب مع أبنائه. يتصرف بحزم ممزوج بالمحبة والإقناع.. وبمثل هذا الحزم أيضاً يجب أن يتصرف الأستاذ مع تلاميذه أو الرئيس مع مرؤوسيه.. ولكن بحزم بعيدا عن الغضب والنرفزة. بل بحكمة رصينة هادئة. والبعض منا يفقد وداعته بسبب الحرص على كرامته الشخصية .. وهذا أمر ردىء وسيئ فالكرامة الحقيقية هى أن يحتفظ الإنسان بالصورة المثالية التى تجلب له احترام الكل. وليس بالقسوة والظهور بمظهر إنسان أنانى لم يستطع ضبط نفسه .. «ولكن.. ما هى الطيبة أو الوداعة ؟؟ وكيف يمكن أن تكون وديعاً طيباً؟؟». «نعم .. إن الإنسان الوديع هو شخص طيب وهادئ. ولكن هذه هى نصف الحقيقة.. أما النصف الآخر فهو أن الوداعة ليست منفصلة أو متعارضة مع باقى الفضائل كالشهامة مثلاً أو الشجاعة.. وإنما كما يقول الحكيم «لكل شىء تحت السماوات وقت».. وهكذا بالنسبة إلى الوديع: يعرف - فى حكمة - متى يهدأ ومتى ينفعل؟ متى يصمت. ومتى يتدخل؟ وكيف يتصرف فى كل حالة من الحالات.. الطيبة هى الطبع السائد عن الوديع.. ولكن عندما يدعوه الموقف إلى الشهامة أو الشجاعة أو الشهادة للحق.. فلا يجوز له أن يمتنع عن شىء من ذلك بحجة التمسك بالوداعة.. لأنه لو فعل ذلك. وامتنع عن التحرك نحو الموقف الشجاع. لا تكون وداعته حينئذ حقيقية.. إنما تصير رخاوة فى الطبع. وعدم فهم لمعنى الوداعة.. بل عدم فهم للروح الخيرة بصفة عامة، فالروح الخيرة ليست تمسكاً بفضيلة واحدة تُلغى معها باقى الفضائل - إنما هى اجتماع كل الفضائل معاً متجانسة ومتعاونة فى جو من التكامل والتآلف.. موسى النبى كان حليماً جداً. ومع ذلك غضب غضبة مقدسة. عندما عبد اليهود عجلاً ذهبياً قد صنعوه بأيديهم فكسّره ووبخهم.. فالوداعة لا تمنع أحياناً من تنبيه الخاطئ أو تحذيره أو حتى توبيخه.. وهى لاتعنى أيضاً ضعف الشخصية والخمول والسلبية ولكنها عكس ذلك تماماً.. فهل إذا أتيحت فرصة له أن ينقذ شخصاً معتدى عليه مثلاً أو فى خطر.. أتراه يمتنع عن ذلك باسم الطيبة والوداعة؟!.. هل من المعقول أن يقول «وما شأنى بذلك؟!».. أم فى شهامة يتقدم وينقذه.. هناك مواقف يجد فيها الوديع نفسه مضطراً أن يتدخل.. ولابد أن يتدخل. والآن.. هل سمعتم صوتى الهامس.. أرجو أن تتمكنوا من ذلك وسط كل هذا الضجيج.. !!فربما تكون بداية متواضعة على طريق طويل فى الاتجاه الصحيح للسلام النفسى والاجتماعى أيضاً الذى بتنا نحتاج إليه ربما أكثر من أى وقت مضى!!