مثل قديم يتناقله الناس باستمرار ويبدو بسيطا ولكنه في غاية العمق وهو بالعامية: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمني لك الغلط).. وقد قيل المثل نفسه في الشعر العربي القديم بلغة فصحي جميلة: (وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وعين السخط تبدي المساوئ).. والمعني الظاهري مفهوم وواضح.. وهو أن من يحبك لا يري مساوئك بل يراك جميلا ويلتمس لك الأعذار في مظهرك وفي تصرفاتك.. أما من لا يحبك ويضع نفسه في عداوة معك، فلا يري فيك إلا عيوبا شكلا وفعلا.. ويجسد المثل نظرية النسبية في أبسط صورها ويفسرها بطريقة سهلة حتي لمن لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب.. فصحيح أن لنا كلنا عيونا ولكننا لا نري الأشياء بالنظرة نفسها، وننحاز مهما حاولنا أن نكون موضوعيين لمن نميل له عاطفيا وفكريا.. ونحن في انحيازنا وأحكامنا لا نري أننا غير منصفين بل نؤمن إيمانا قطعيا بأن ما تراه عيوننا جميلا هو جميل، وما نراه قبيحا هو قبيح بالفعل عند الجميع. ولا يقف الأمر عند الحدود الشخصية الأحادية، بل يتعداها إلي الثقافات والحضارات وحتي في الأحكام القضائية والسياسية لا يمكن أن نضع فكرة واحدة يراها كل الأطراف من منظور متشابه.. بل يري كل طرف رؤيته من عينيه هو وتصدر أحكامه، وتبني قناعاته انطلاقا من نظرته تلك.. وفي هذا الأمر بالذات تجد أن الموقف الواحد يتم تفسيره بأشكال مختلفة ومتباينة وأحيانا متضادة.. وأقرب الأمثلة علي ذلك أن مباراة كرة قدم بين فريقين متنافسين يشاهدها جمهور الفريقين، ربما علي الشاشة نفسها ومن مكان واحد، ولكن المشهد الواحد يفسره فريق علي أنه (هدف) مؤكد، والآخر علي أنه، بلا شك (تسلل)!! وكثير من معتقداتنا يقع في نطاق هذا المثل.. فالوطنية الحقة هي أنك تحب وطنك فتراه أجمل مكان ليس لأنه فعلا هكذا، بل لأنك تحبه وتبلع له الزلط.. وقد تذهب إلي بلد آخر فلا تري فيه إلا الغلط! والمسألة نسبية بحتة. وفي وهم الحب، الذي أطلق المثل عليه، تنطبق الفكرة تماما.. فيري كل طرف الطرف الآخر علي أنه الأجمل والأكثر وسامة والأطيب قلبا، والأوسع أفقا، والأكثر ذكاء من غيره من الناس جميعا.. وحتي إذا رأت العين من هو أجمل أو أفضل ممن تحب، أنكرت وعادت للنصف الآخر من المثل، وبدأت في البحث عن العيوب حتي تفقد تلك الصورة بريقها، وتظل صورة المحبوب براقة لامعة. وفي حب العمل، وحب الأبناء، وغير ذلك من الارتباطات النفسية والوجدانية الحقيقية القوية، يظل كل منا علي قناعة بأن ما يحبه هو الأفضل والأجمل.. وإذا واجه صعوبات وتحديات، يقنع نفسه بأن ما يحبه هو الأفضل له، وأن ما لا يحبه مليء بالعيوب ولا يناسبه. وبالرغم من أن النسبية غير موضوعية، إلا أن هناك أشياء كثيرة في الحياة ليست موضوعية ولكنها تجعل الحياة أفضل وأجمل وتجسد مشاعر الإنسان أمام عينيه وكأنها حقيقة.. وليس عيبا أن نبلع الزلط لأوطاننا، وأبنائنا، ومن نحب.