رحلة ممتعة وحافلة بالأسرار يأخذك إلي عالمها المثير الناقد السينمائي الكبير عبدالنور خليل في كتابه الجديد "فاتن حمامة والعصر الذهبي للسينما". في هذا الكتاب تقترب كثيرا من وجه القمر، من فاتن حمامة التي تربعت ولاتزال علي عرش قلوب محبيها، وتقترب في نفس الوقت من محاولة حقيقية للتأريخ للحركة الفنية في بلادنا، فقد أصدر عبدالنور خليل من قبل كتابه "المعممون في ساحة الغناء"، الذي تناول فيه ميلاد الأغنية المصرية الأصيلة علي يد عبده الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد. ويأتي كتابه الجديد عن "فاتن حمامة والعصر الذهبي للسينما" ليفصح عن هذه العلاقة الوثيقة بين فن السينما وفنون الصحافة، في بلاتوهات السينما وفي كواليس الصحافة يلتقط عبدالنور صورا حقيقية لنجوم تحبهم، ينزلون من الشاشة الفضية ليصافحوك ويتحدثوا إليك ويتنفسوا بقربك.. نجوم من لحم ودم يبكون ويفرحون، يغمرهم الضوء فيبدون أكثر بساطة وإنسانية. أجمل طفلة ظهر نجم فاتن حمامة لأول مرة علي غلاف مجلة "المصور" ، فقد نشرت صورتها علي الغلاف، وهي ترتدي زي ممرضة كملاك من ملائكة الرحمة، وكانت المجلة قد نظمت مسابقة لاختيار أجمل طفلة، رأي صورتها المخرج السينمائي الكبير محمد كريم فكادت الصورة أن تنطق "أنا أنيسة يا أستاذ كريم" ليبدأ المخرج الكبير رحلة البحث عن فاتن لتلعب دور أنيسة الطفلة في فيلم "يوم سعيد" أمام محمد عبدالوهاب. واستطاع كريم أن يقنع والد الطفلة الذي كان يعمل ناظرا لإحدي المدارس في المنصورة بأن تلعب فاتن دور أنيسة، ونجحت بالفعل فاتن في تجسيد الدور، وأصبحت مشهورة إلي حد أن الناس كانوا يلاحقونها كلما مشت في شوارع المنصورة ذاهبة إلي المدرسة أو عائدة منها فاتخذ والدها قرارا بأن تتفرغ لدراستها، وقد أحس أن "أنيسة" أفسدت علي ابنته الصغيرة حياتها. ويرصد الكاتب أثر هذا الاختفاء القسري لفاتن من خلال مذكرات شيخ المخرجين الراحل محمد كريم فيقول: لما انتهي دور فاتن في "يوم سعيد"، وفي اليوم الذي أكملت فيه آخر لقطة شعرت بحزن وأسي، فقد أيقنت وأيقن الجميع أننا إزاء موهبة، وأن علينا أن نستغل هذه الموهبة، أشرت علي عبدالوهاب أن يتعاقد معها لا لفيلم واحد بل بصفة دائمة، وفعلا تعاقد معها لمدة سنتين بمرتب شهري، لكن للأسف مضي شهر.. وسنة وسنتان بل سنوات كثيرة، ولم تظهر الطفلة العبقرية فاتن حمامة في السينما، مضت هذه الطفولة الرائعة دون أن يستغلها أحد، مضت كطيف سريع الظهور.. سريع الاختفاء". ويبدو أن هذا الشعور العميق بموهبة فاتن هو ما دفع محمد كريم بعد ذلك بعدة سنوات إلي محاولة إقناع والدها بظهورها في السينما من جديد لتعود فاتن إلي السينما في فيلم "رصاصة في القلب" لتمثل دور الأخت الصغري لراقية إبراهيم، وكان الفيلم من بطولة محمد عبدالوهاب، وكانت عودة فاتن هذه المرة إيذانا ببداية الرحلة الطويلة التي قطعتها صعودا إلي القمة والانفراد بالبطولة في عشرات من أفلام العصر الذهبي للسينما في مصر والعالم العربي. أشهر تلميذة في معهد التمثيل والتحقت فاتن بمعهد التمثيل عام 4491 فكانت بين أعضاء الدفعة الأولي، وكان زكي طليمات قد أنشأ المعهد عام 9291 بعد عودته من بعثة لدراسة التمثيل في فرنسا، وذلك أثناء تولي حسين سري باشا رئاسة الوزراء، ولكن جاءت حكومة إسماعيل صدقي بقبضتها الحديدية، وقد تولي فيها حلمي عيسي باشا وزارة المعارف فألغي معهد التمثيل بحجة أنه سيتنافر مع تقاليد المجتمع المصري، ولكن زكي طليمات نجح في إعادة افتتاحه عام 4491، وكانت فاتن أشهر من التحقوا به، ولكنها اضطرت لتركه قبل أن تكمل دراستها، وذلك تحت ضغط العمل كنجمة سينمائية تصعد إلي القمة بسرعة الصاروخ. وقد اجتذبت فاتن اهتمام أستاذها الفنان زكي طليمات فسجل في كتابه "ذكريات ووجوه" الذي أصدره عام 2891 لقاءه الأول بفاتن حمامة وهو البورتريه الذي حرص عبدالنور أن يضمه إلي عدة بورتريهات أخري لفاتن.. عدة وجوه للقمر. يقول زكي طليمات عن فاتن: "رأيت شيئا دقيق الحجم، ينمو بحساب دقيق، ويؤلف قطعة من فتاة وسيمة، وجه صغير بالغ الوسامة كوجه العرائس الغالية، تتحرك فيه وبلا انقطاع عينان واسعتان يكمن وراءهما قلق يدق وفضول لا ينقطع، وأشرت قائلا:"تعالي هنا يا عروسة"، وقفت صاحبة الوجه الذي يشبه العروسة وهي تحتج: "أنا مش عروسة يا أستاذ". قلت: "طيب ما تزعليش، بكرة تبقي عروسة.. اسمك إيه؟ - فاتن حمامة - لازم تعرفي بأة تطيري يا شاطرة؟! - يعني إيه؟ - مش أنت حمامة؟! - لا أنا فاتن! ويصور قلم زكي طليمات ثقة فاتن في نفسها، وقوة شخصيتها علي حداثة سنها ويصف إحساسها بالكلمة فيقول: "إنها تحس ما تقوله إحساسا عميقا، يرتسم علي كل أعضاء جسمها مثل صندوق آلة الكمان أو العود الذي يهتز بكل كيانه عندما تلامسه ريشة العازف". دعاء الكروان رحلة سينمائية متألقة استطاعت بها فاتن حمامة أن تنتزع مكانتها الفنية فهي أول ممثلة مصرية تترشح لجائزة "الأوسكار" عن دور "آمنة" في فيلم "دعاء الكروان" فهذا أول فيلم مصري يصل إلي التصفية النهائية لمسابقة "الأوسكار" لأحسن فيلم ناطق بلغة أجنبية، وتبعه فيلم المخرج عاطف سالم "أم العروسة" بعد ذلك بأربعة أعوام ولم يتكرر هذا مرة أخري في تاريخ السينما المصرية إلي اليوم، وهو ما يؤكد أن تاريخ السينما الذهبي مرتبط بفاتن حمامة. ومن الطريف أن نعلم من كتاب عبدالنور أن المطرب الكبير فريد الأطرش كان هو "المرشح للدور الذي لعبه الفنان أحمد مظهر في دور مهندس الري الذي أحبته آمنة وهنادي"! ولكن عندما بدأ يوسف جوهر في كتابة الصفحات الأولي من السيناريو للفيلم عن رواية عميد الأدب العربي طه حسين "دعاء الكروان" أخذت القصة مسارا آخر بعيدا عن فكرة الفيلم الغنائي. ويبرز دور الصحافة الفنية في تكريم مجلة "الكواكب" لفاتن حمامة والمخرج هنري بركات في الحفل الذي أقيم لهما في دار الهلال وصدور "الكواكب" وهي تحمل علي غلافها صورة شهادة ترشيح "دعاء الكروان" لجائزة الأوسكار وصورة فاتن في أحد مشاهد الفيلم، وذلك بعد عدة مقالات كتبها عبدالنور في "الكواكب" مطالبا باستخراج شهادة الترشيح للأوسكار من مخازن وزارة الثقافة واستطاع بالفعل الحصول عليها لتتسلمها فاتن من الكاتب الكبير فكري أباظة في حفل بدار الهلال ومعها المخرج هنري بركات. العصر الذهبي للسينما سر تفوق فاتن هو أنها تعيش الشخصية التي تقدمها والموهبة هي التي تجعلك تصدقها وتعيش معها في الدراما التي تمثلها، ولقد أحبت فاتن أدوارها السينمائية، أحبت "آمنة" في "دعاء الكروان" رواية عميد الأدب العربي طه حسين، و"عزيزة" في قصة "الحرام" ليوسف إدريس، و"فاطمة" في "ليلة القبض علي فاطمة" رواية سكينة فؤاد، وأحبت أدوارها ما عدا دورها في فيلم "لا أنام" فقد كرهت دور "نادية" الشريرة التي جسدت في رواية إحسان عبدالقدوس الفتاة التي تكره أن تأخذ منها اهتمام والدها أي امرأة، بل تحيك الدسائس ضد زوجة الأب الطيبة التي لعبت دورها مريم فخرالدين. وقد تميزت فاتن حمامة بغزارة الإنتاج، فقد مثلت من عام 7491- 2591 حوالي 43 فيلما، وعشرة أفلام في عام 2591، وستة أفلام عام 3591، وسبعة عام 4591، فانفردت بالقمة، وكانت أفلامها من أهم علامات العصر الذهبي للسينما المصرية، ومضت فاتن تتخذ مواقف مساندة لعدد من المخرجين المصريين الذين اضطروا إلي إنتاج أفلامهم ومشروعاتهم السينمائية، فقامت ببطولة الفيلم الذي فتح الطريق لصلاح أبوسيف ليصبح رائدا للسينما الواقعية وهو فيلم "لك يوم يا ظالم" عن قصة مصرها مع نجيب محفوظ عن رواية للكاتب الفرنسي إميل زولا، وضمنت بأجرها المخرج كمال الشيخ في أول فيلم ينتجه وقامت ببطولته وهو "المنزل رقم 31"، وساندت يوسف شاهين ببطولتها لأول أفلامه "بابا أمين"، ثم دعمته بالعمل في فيلمه "ابن النيل"، ثم تبنت الفكرة التي كتبها حلمي حليم للفيلم الثالث ليوسف شاهين "صراع في الوادي"، ودفعت حلمي حليم إلي بداية عمله كمخرج وقبلت بطولة فيلمه "أيامنا الحلوة"، كما أنها عملت مع المخرج أحمد بدرخان عندما قدم أول فيلم سياسي بعد الثورة وهو فيلم "الله معنا" الذي تناول قصة "الأسلحة الفاسدة" التي كان ضحيتها الجيش المصري في حرب فلسطين عن قصة كتبها إحسان عبدالقدوس، وكانت هذه الأفلام جميعا تعتبر بداية العصر الذهبي للسينما المصرية. رمز من رموز السينما المصرية وقد كان أحمد بهاء الدين الكاتب الكبير يري كما يري الكثيرون أن فاتن حمامة رمز من رموز السينما المصرية علي مستوي العالم، لذا فقد حرص دائما علي أن يدعوها في كل المناسبات المهمة عندما كان رئيسا لمجلس إدارة "دار الهلال" ورئيسا لتحرير "المصور"، وقد دعاها لحفل رسمي عندما جاء إلي القاهرة الثائر الأشهر "تشي جيفارا"، وقد أبرز عبدالنور الحوار الذي دار بين فاتن وجيفارا فقال: "حدثته فاتن عن آخر أفلامها وقتذاك "الحرام"، وكيف قامت فيه بدور الفلاحة التي تترك أسرتها وترتحل ضمن أنفار الترحيلة الذين يعملون في أراضي أحد الإقطاعيين وتتعرض للظلم والقهر وتموت في نهاية مأساوية، وفي رده كان جيفارا قاطعا لم يكن يؤمن بأن السينما عندما تعالج واقع الفقراء من الناس العاديين يمكن أن تضيف شيئا إلي الثورة، بل يجب أن تتبني موقفا واضحا ضد الاستعمار والقهر وتحرض علي الثورة"، وقد كان الحوار بين فاتن حمامة وجيفارا واحدا من أهم العناصر التي تناولها أحمد بهاء الدين في مقال شامل عن جيفارا. وقد أطلت فاتن علي السينما العالمية فمثلت في فيلمين هما فيلم "القاهرة" الذي شاركت فيه الممثل العالمي "ركس هاريسون" وزميله "إريك جونسون" وصورت كل مشاهده في مصر بين القاهرة والأقصر ومعابدها، كما شاركت في فيلم آخر "صراع الملعونين"، من إخراج جورج بنتلي والنجم الإنجليزي جون جريجسون. ورغم أن فاتن قد أعطت السينما اهتمامها الأول، فإنها أيضا أسهمت بفنها في التليفزيون فاختارت ثلاث مسرحيات لتوفيق الحكيم تم تقديمها في ثلاث سهرات تليفزيونية أخرج منها بركات اثنتين هما: "الساحرة" و"أريد هذا الرجل"، وأخرج الثالثة سعيد مرزوق وهي "أغنية الموت"، كما مثلت فاتن حمامة مسلسل "ضمير أبلة حكمت" من إخراج إنعام محمد علي للتليفزيون، ومسلسل"البراري والحامول" في الإذاعة المصرية. أما آخر بطولاتها في السينما فكان فيلم "أرض الأحلام" من إخراج داود عبدالسيد. ويؤكد عبدالنور أن فاتن حمامة لم تعتزل وإنما هي في بحث دائم عن عمل متميز. فاتن حمامة والحب ومن أجمل فصول الكتاب إضافة إلي البورتريهات التي جمعها الكاتب لفاتن بدءا من بورتريه الغلاف الذي رسمه لها الفنان جمال كامل، وبورتريه رسمه لها زكي طليمات وآخر رسمه لها محمد كريم المخرج الشهير، وهما بورتريهان من كلمات، فإن عبدالنور يرسم وجها آخر من وجوه القمر لفاتن حمامة فيقول: "إن هذه السيدة النحيلة الرقيقة حجما ومظهرا قد سيطرت علي وجدان المتفرج وخلقت في ذهنه صورة نموذجية للأخت أو الحبيبة أو الزوجة التي تفرض عليه أريحيته وشهامته أن يحميها من أي شر يتهددها أو يدفع عنها أي ضرر يقع عليها، كانت في ذهن أي رجل هي البنت المصرية التي تطحنها الظروف وتعرضها للظلم والقهر في مجتمع فقير، بنت الحارة أو بنت الأسرة المتوسطة التي تلاحقها ظروف الفقر والقهر". ولكن المفاجأة التي يكشف عنها الكاتب فيقول: "فاتن في حياتها الخاصة ليست الفتاة الضعيفة المسكينة المظلومة الحق التي تظهر علي الشاشة في معظم أفلامها، ليست الفتاة المهضومة الحق، المسلوبة الإرادة التي تترك الظروف المحيطة بها تقسو عليها وتسلبها حقها في الحياة الكريمة أو السعيدة، إنها فتاة عاقلة في الحقيقة والواقع لا تندفع في تصرف، فتاة حازمة تمتلك إرادة حقيقية ونظرة ثاقبة إذا أرادت شيئا حققته دون حساب الصعاب والأقاويل مادامت مؤمنة بصحته وأن حقها في الحياة السعيدة مادام دون إيذاء الغير والآخرين في ظل الحب والاحترام وتبادل التقدير والإعجاب"، ويضرب الكاتب مثالا لذلك من حياتها الخاصة، فعندما صدمت في حبها الأول فلم تجد صورة ما رسمته في أحلامها من صورة فارس الأحلام في زواجها من المخرج المبدع الراحل عزالدين ذوالفقار، غالبت أحزانها ومثلت في هذه الفترة "خمس سنوات" حوالي 43 فيلما، حاولت أن تتمسك بزواجها خاصة أنها كانت قد عارضت رغبة أسرتها وتزوجته وأثمر هذا الزواج طفلة جميلة هي نادية ذوالفقار، لكن فاتن التي مثلت من إخراج زوجها أفلام: "موعد مع الحياة" و"موعد مع السعادة" و"خلود" لم تستطع بالفعل أن تجد سعادتها فاتخذت قرارا بالانفصال. وعندما التقت بعمر الشريف في فيلم "صراع في الوادي" ليقف أمامها كممثل لأول مرة وتحابا انتصرت لحبهما في النهاية رغم العواصف التي تفجرت قبل هذا الزواج وبعده، كان من حقها أن تحقق أملها في حب كبير، لقد أصرت فاتن علي أن تنهي تعاستها بإرادة حقيقية حديدية". ويختتم عبدالنور كتابه الجميل "فاتن حمامة والعصر الذهبي للسينما"، بقوله: "وعندما أسمع عمر الشريف يتحدث هذه الأيام في إيجاز عن الفترة التي عاشها وفاتن حمامة كزوجين فيقول لمحدثه: "فاتن لها الآن حياتها الخاصة، وهي زوجة وست بيت، وأفضل ألا أتحدث عنها أو عن حياتنا معا احتراما لها ولكل ما حققته لي من مكانة، فأثق أنني حيال فنان كبير تحكمه أخلاقياته". أما نحن جمهور فاتن حمامة ومحبيها فنكون قد تعرفنا من خلال هذا الكتاب علي وجه آخر للقمر.. وجه أكثر جمالا واكتمالا لأنه من لحم ودم، وأعصاب ومشاعر.. قمر يضحك ويبكي مثلنا، نتطلع إليه في السماء ونعجب لأننا نجده يتنفس قربنا.. ندمع أو نبتسم فيربت علي أكتافنا.. قمر بيننا.. يهمس: "أنا فاتن حمامة"!