مهما تكن متابعتك لأوضاع غزة، وقياداتها وشهدائها ومستقبلها والحصار الذى يطوقها، فإن هناك جانباً لم يخبرك به أحد. وهو الرسوم الحائطية، التى يقوم بها فنانون وخطاطون، أضافوا لجدران القطاع الرمادية، مهمة حيوية، وهى أن تحمل للمواطنين الشعارات والمواقف السياسية وصور الشهداء، بل تعكس فى لحظة مظاهر الصراع بين فتح وحماس. والتى تنبهت إلى هذه الوسيلة المبتكرة من وسائل الاتصال، هى المصورة الفوتوغرافية السويدية مياجروندهال، وقضت سبع سنوات، ترصد الظاهرة، وتتابع الإنجاز، وتسجله بالكاميرا. وأصدرت أخيراً هذا الشهر كتاباً، يضم نماذج من الصور التى التقطتها للرسوم الحائطية والجداريات وكتابات الخطاطين. وتقول لنا إن هذا الصوت، ولد ونما فى ظل مقاومة الاحتلال الإسرائيلى، قبل انتفاضة 7891، حيث لم يكن فى غزة تليفزيون أو راديو، وكانت الصحف القادمة من القدس تخضع للرقابة. ولدت هذه الأداة، تعلن عن أسماء الشهداء ، وتبث روح المقاومة، وتذكر الناس بالمهام المطلوبة. وسط هذا الاقتتال، ظهر فيلق الرسوم الحائطية والخطاطين. وعكس المواقف السياسية المختلفة فلكل فريق سياسى فنانوه المرتبطون به، ونداءاته، بل إن الجدران أصبحت تعكس ميزان القوى بين الفصائل، وإذا كان صوت فتح هو الأوضح فى مرحلة، وتساوت المساحة فى مرحلة، فإنه بعد انفراد حماس بالسلطة فى 6002، انفردت أيضاً بالجدران، وأصبح صوت فتح خافتاً، يكتفى أحياناً بتهنئة أبناء غزة بعيد الأضحى المبارك. ولابد أنها التقطت مئات الصور، اختارت لنا منها 701 صور، وزعتها على ستة أقسام: مقاومة بالرسوم، الخطاطون يشاركون، السياسة تتكلم، بورتريهات، جداريات، تهانى. وهذا القسم الأخير يشير إلى التطور الذى أضيف إلى الرسوم حيث استخدمت الجدران وسيلة للإعلان عن حفلات الزواج وتهانى العائدين من الحج وكتبت لكل فصل مقدمة مركزة، تهدى القارئ لفهم ما وراء فرشاة الفنان، إنه عمل يثير الإعجاب والإشادة بفنانة ظلت تتابع موضوعها سبع سنوات، لتقدمه بهذا الإتقان والفهم والمسئولية، هل وصلتك الرسالة؟! والكتاب من مطبوعات قسم النشر بالجامعة الأمريكية. دكتور محمد مندور لابد أن هناك فى مسيرة الدكتور محمد مندور، من عمق التأثير، وأصالة الإنجاز ونزاهة القصد، ما يجعل ضوءه باقيا، لا يخفت بريقه مع مرور الأيام. فليسوا كثيرين من بين المؤسسين والرموز فى تاريخنا، من تظل ذاكرة حية على هذه الدرجة من النضارة، تتلقاها الأجيال التالية بإكبار واحترام، ونبعهم لا يجف ماؤه، كما هو الحال مع الدكتور مندور. لقد لبى نداء ربه، منذ ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً، واحتفل مجلس الثقافة، بالذكرى المئوية لميلاده، منذ عامين، ومع ذلك فطوال هذا التاريخ، لا يمر وقت طويل منذ وفاته، خلال كل عام، دون أن يأتى ذكره، أو يقتبس أحد تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، عبارة جاءت على لسانه، أو فى ثنايا كتاباته، أو يكتب عنه واحد من الذين نهلوا من علمه، فى ذكرى وفاته، لافتاً النظر إلى شىء من جهوده، فى أكثر من مجال من مجالات الحياة. وحين مات الدكتور مندور، كان فى الثامنة والخمسين من العمر، وهى سن ليست متقدمة، ومع ذلك يعجب المرء لذلك الفيض من الإنجاز، الذى أبدعه خلال هذا العمر، لاسيما حين نعرف أنه بدأ يفصح عن آرائه، وهو فى الثانية والثلاثين من عمره، بعد عودته من بعثته العلمية فى فرنسا سنة 9391. وفى مناسبة الذكرى المئوية لمولده صدرت له ثلاثة كتب: كتابه العمدة النقد المنهجى عند العرب الذى تصدر به الحركة الأدبية والثقافية، وكتاب يجمع مقالات له، لم تنشر فى كتاب، بعنوان الصحافة وحريتها والفنون ووحدتها وكتاب ثالث ينشر أيضاً لأول مرة، بعنوان أساتذة وزملاء وليست هذه المرة الأولى، التى أقرأ فيها، معظم هذه المقالات، ولكنها هذه المرة كانت فرصة للتأمل والبحث عن السر وراء المكانة السامقة التى يستحقها هذا الرجل العظيم، عن جدارة. وربما تكون العبارة التى تجىء فى مقدمة الناشر لكتاب النقد المنهجى فيها مفتاح السر، العبارة التى تقول إنه قطعة من تاريخ مصر الحديث. هذه العبارة ربما تفسر هذا الحضور الطاغى، فحياته بالفعل ترتبط ارتباطاً عميقاً، بمسيرة هذا التاريخ، والمشاركة بالتعبير والحركة العملية، عن طموحاته وأهدافه. فحين ترك الجامعة، وتفرغ للصحافة والسياسة، كان يخاطر بترك ملاذ آمن، إلى ساحة تعج بالمخاطر. ولم يكن حين ترك الجامعة استاذاً عادياً، كان رائداً فى ميدانه وحين يعيد المرء قراءة كتابه عن النقد المنهجى، وهو كتاب له قصة، تستحق أن تروى لجيل اليوم- ولكن ليس هذا مجالها - يحس المرء بمدى التكوين العميق الذى توفر له، والإلمام بروح التراث والثقافة المعاصرة ولكنه آثر أن ينقل إلى ساحة أوسع وجانب آخر تثيره قراءة الكتب الثلاثة، وتلقى ضوءاً على نبع عظمته وهو حس الرسالة العميق، الذى يملأ جوانب نفسه، رسالة النهوض بمصر، وبناء حاضرها على ركائز الديموقراطية والعلم والتنمية. وهنا تذكرت ما سمعته من ابنه الدكتور حسام - أستاذ الاقتصاد - أن والده كثيراً ما كان يأتى إلى البيت ظهراً، فى حر الصيف، منهكاً، ويتناول غداءه، ويستعد للخروج لإلقاء محاضرة فى معهد أو جامعة، وتناشده الأسرة البقاء للراحة، فيجيب: لا أستطيع.. تلاميذى فى انتظارى، ولا أريد أن اخيب رجاءهم.. لا أستطيع أن أستريح وأضيع عليهم الوقت، وينطلق راكضا سعيداً بلقاء من يرى فيهم أشعة الأمل. مثلاً، لقد ذَيَّل كتابه القوى النقد المنهجى بترجمة لبحث لمفكر فرنسى كبير، حول منهج البحث فى الأدب واللغة بما يشير إلى انشغاله المستمر ببناء عقل عربى قادر على النقد والتحليل وتقليب الأمور على مختلف وجوهها والتسلح بأدوات العصر. وكانت زوجته الشاعرة ملك عبدالعزيز.. رحمها اللهم.. قد أشرفت، عقب موته، على نشر مقالات له بعنوان كتابات لم تنشر كانت مفاجأة لجيلنا، فقد قرأنا ما كان يكتبه فى سنوات الأربعينيات، فى قضايا السياسة والاقتصاد. وها هو ابنه الدكتور طارق مندور، يفاجئنا بعد أربعين عاماً تقريباً، بكتابات أخرى لم تنشر، فى ميادين أخرى من ميادين الفكر. ها نحن أمام مائة وخمسين مقالاً، كانت مطوية فى بطون صحف ومجلات، يصعب على أى أحد العثور عليها (صحف البوليس والرسالة والبعث وصوت الأمة والثورة والجمهورية والشعب). وإلى الذين يريدون أن يعرفوا نموذجاً لمصريين أفذاذ، دافعوا عن الديموقراطية، فى ظروف شائكة، أن يقرأوا بعض مقالات هذا الكتاب. كان الانشغال بنهضة شاملة، تتابع ما حدث عقب ثورة 9191، يفيض من أعماق قلبه، وإن المقالات التى يدعو فيها إلى تعلم ونشر فن الرقص المرتبط بتذوق الموسيقى، مثل على الإيمان العميق ببناء المواطن الحساس وعالى الهمة، أما كتاب أساتذة وزملاء فهو هدية ثمينة، تمس شغاف القلب، فكيف يعرف أى منا، بمقال نشره مندور سنة 5491، فى مجلة الرسالة، بعنوان اعترافات مؤمن ولم يضمنه أى كتاب من كتبه، وهو مقال يفيض جمالاً وتأثيراً وذكريات، لم يجنح صاحبه إلى الفلسفة - وهو يعرفها - ولكن يفيض من أعماق روحه، وهو يفسر للقارئ طبيعة الإيمان الذى انتهى إليه. وفى الكتاب مقالات أخرى دافئة مملوءة بروح المودة والإجلال والتقدير لمن تعلم على أيديهم، أو ممن زاملوه فى رحلة الحياة، وشاركوه الحلم بالمستقبل، ولا أستطيع أن أدعوك للبحث عن هذا الكتيب، لأنه كان يوزع مجاناً مع مجلة الثقافة الجديدة. وفى غمرة الفرح بهذه الثروة، التى كان يمكن فقدانها، يجب ألا ننسى شكر الابن الوفى طارق، الذى يعدنا، بكتاب جديد بعنوان قد أصبح البصر حديداً .. ما أعظم ما تركه لنا هذا الجيل العظيم.. الدكتور صلاح السويفى أعادنى الدكتور صلاح السويفى، الأستاذ بمعهد الدراسات الأفريقية، الصديق وزميل الدراسة، فى مدرسة قوص الابتدائية ثم قوص الإعدادية والثانوية، أكثر من خمسين عاماً إلى الوراء، عندما كنا فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى، تلاميذ صغارًا، ندرس بهذه المدرسة، التى كانت قصراً جميلاً، بناه طوبياً بقطر - الإقطاعى بتعبيرات ذلك الزمان - ولا أعرف إلى الآن الظروف التى تحول فيها إلى مدرسة لاتزال قائمة إلى اليوم. أعادنى، بفضل ذكرياته عن تلك الأيام التى كتبها ونشرها على حسابه ووزعها بنفسه، وجعل عنوانها نبش الديك كنت أتصور أنه ليس فى مقدور أى أحد، كتابة ذكرياته، ولكن صفحات صلاح، تؤكد أن كل واحد لديه قصته، التى يمكن أن تصيخ لها الأسماع، بشرط أن يملك حس الاهتمام بالغير، وروح التعاون، والخروج من شرنقة الذات. كان صلاح يسبقنى فى الدراسة، ربما بعام واحد، ولابد أن شيئاً جعله مطبوعاً فى ذاكرتى، منذ ذلك التاريخ البعيد، فلا أنسى تسلمه لمجلة البوليس التى تأتيه بالبريد، باسمه شخصياً، ويجلس فى الفسحة، يقلبها فى اهتمام واستغراق. وعرفت فى نبش الديك أنه أرسل قصة للمجلة، لم تنشرها المجلة ولكن رئيس تحريرها - عبدالله الوتيدى - كافأه بمنحه اشتراكاً فى المجلة لمدة ستة شهور. وقد تعمقت علاقتنا حين التقينا فى الجامعة، فى كلية الآداب، هو فى قسم الجغرافيا وأنا فى قسم الصحافة. ورغم أنه لم يكن قوصياً، فنشأته الأولى فى قرية من قرى أبو تيج، إلا أن والده نقل إلى قوص، حيث عمله، والابن فى السابعة، وظل فيها إلى أن دخل الجامعة. ومن هنا أصبحت قوص بلده ومنبع ذكرياته ومجمع أصدقائه وأعماق روحه. ويبدو لى أنه لم يعد إليها منذ تركها إلى الجامعة ثم الحياة الواسعة، ولذلك فقوص عنده هى قوص الخمسينيات. ذكرنى بالشارع الذى يمتد من المدرسة إلى نهر النيل.. ولكن ما تبقى منه فى ذاكرته إلى اليوم، يفوح بعطر الرومانسية، فالشارع الواسع - نسى أنه كان ترابياً - تحيط به أشجار السرو واللبخ والجميز، تغمره بالظلال، حتى تتدلى آخر الفروع فى النهر.. (طبعاً لم يعد كذلك أبدا ولا النيل هو النيل) لم تبق من سنوات المدينة فى وجدانه إلا الخيرات والجمال وزيارات الأقارب، ولذة الاكتشاف والسهرة الأولى حتى الفجر فى مولد سيدى عبدالرحيم. حتى العقارب - التى تقتلنا - لا يذكرها إلا بالخير، ومتعة اصطيادها من الشقوق بالماشة. وعلى ذكر الماشة - هل تعرفها - ذكرنى صلاح بكلمات، خُيِّلَ إلى أنى نسيتها منها المية فضة وهى عملة تساوى قرشين ونصفا، ولم تعد متداولة منذ زمن بعيد، وهو يتذكر أن تذكرة السينما كانت بمية فضة، حيث دخل أكثر من مرة، فيلم لهاليبو لنعيمة عاكف، أما كلمات الدميرة والدبيب والدمس والمنشل واللمبة الساروخ، فلا أجد مبرراَ لشرحها، لأنك لن تستخدمها أبداً. كان صلاح من الطبقة المستورة، أو المستورة بالعافية، لكن أذكر - ربما لنظافة ملابسه - كان يبدو لى من الأغنياء. وتكشف لى ذكرياته، عن نبل كفاح آبائنا، ليكون الأبناء فى وضع أحسن، وليصعدوا درجات على سلم الطبقة المتوسطة، فهو يروى أن أمه التى لا تجيد القراءة والكتابة، هى التى تقف وراء تعليمه الكتابة وتحسين خطه، إذ كانت تجلس إلى جانبه على السلم، وهو فى الرابعة من عمره، وتطلب منه أن ينقل عناوين الصفحة الأولى من صحيفة المصرى، وتقارن بين ما يكتبه وبين وضوح وجمال خطوط الصحيفة وتطلب منه تجويد ما يكتبه. إن حكايات هؤلاء الآباء على امتداد مصر كلها تملأ مجلدات. كيف يرد الأبناء الجميل فى حق الوطن كله؟!؟