إن تلك الرؤية الضيقة والمحدودة لمفهوم العقل العربي علي أنه الربط والحبس لمجرد الربط والحبس أو لمجرد تحكم الإنسان في رغباته وانفعالاته وكفي لهو عين المغالطة التي يراد من ورائها تجهيل العقل العربي ووسمه بالتخلف والقصور في ذاته كعقل, فمن هذه الرؤية القاصرة يراد تصوير مفهوم العقل في اللسان العربي علي أنه مفهوم ضيق ومحدود ولا يعني سوي تحكم الإنسان في نزواته وانفعالاته وكفي, ويراد أيضا تصوير مفهوم العقل في اللسان العربي علي أنه مفهوم بعيد كل البعد عن مفهوم العقل عند الغرب والذي يعني: السعي الحر لإدراك واكتشاف الظواهر والعلاقات بين الأشياء وتشكيل علاقات جديدة بينها. فثمة أمران يظهران بشكل واضح مدي قصور هذه الرؤية لمفهوم ومعني العقل في اللسان العربي وهما: الأمر الأول: عدم وجود اختلاف جوهري بين وظائف العقل وثوابته بين بني البشر جميعا في أي مكان في الدنيا, بمعني أنه إذا كان من وظائف العقل أن يسعي لإدراك واكتشاف العلاقات بين الأشياء والظواهر وتشكيل علاقات جديدة بينها أو ما يسمي بالابتكار والإبداع فإن هذه الوظائف العقلية ليست حكرا علي عقول دون عقول مهما اختلف البشر ومهما اختلفت أماكنهم وألوانهم وأديانهم وأفكارهم,فواقع كل حضارات العالم القديمة والحديثة يؤكد ذلك، فليست وظائف العقل حكرا علي أناس دون آخرين مهما اختلفت لغاتهم ومصطلحاتهم ومسمياتهم لوظائف العقل, وإذا جاز القول بمثل ذلك إذن يمكننا القول أن وظائف المعدة لسكان سويسرا, تختلف عن وظائف المعدة لسكان جنوب أفريقيا، وهذا مالا يقول به أحد. الأمر الثاني: وجود الكثير من نصوص القرآن التي خاطبت العقل العربي وخاطبت فيه الإدراك والكشف عن علاقات الأشياء والظواهر وتشكيل علاقات جديدة بين هذه الأشياء، ونسوق البعض القليل من الكثير من النصوص القرآنية التي تخاطب وتستحث وظيفة الإدراك والكشف عن علاقات الأشياء والظواهر لحث العقل العربي علي الإيمان بالله وترك الأوثان: قال تعالي: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا ينفَعُكُمْ شَيئًا وَلَا يضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وقال تعالي: (أَفَلَمْ يسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وقال تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعْقِلُونَ) وقال تعالي: (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يعْقِلُونَ) وقال تعالي: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وقال تعالي: (يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) وقال تعالي: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يعْقِلُونَ) وقال تعالي: (قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) فكيف يقال بعد هذا إن مفهوم العقل العربي يقوم علي الربط والقيد وليس السعي لإدراك العلاقات بين الأشياء. للحديث بقية