تتزايد أحلام المصريين «يوما بعد يوم» بزيادة مرتباتهم فنجد أن القاسم المشترك بين العديد من الاعتصامات والتي وصلت إلي حد الإضرابات في الفترة الأخيرة كانت المطالبة بزيادة نسبة الحوافز بنسبة 200% وكأن هذه الكلمة أصبحت هي كلمة السر. «خد 200% تلاقي عيشتك هنية» فنجد إضراب المدرسين الذين كثيرا ما طالبوا بزيادة رواتبهم في ظل الحكومات السابقة ولا من مستجيب ثم تجددت المطالبات مرة ثانية بزيادة المرتبات بنسبة 200%، والأمر مازال قائما كما هو «المدرسون مضربون والمدارس خاوية»! ولا يمكن أن نتجاهل أيضا إضراب الأطباء في بعض مستشفيات الجمهورية وكذلك التهديد بإضراب عمال النقل العام لنفس الأمر أيضا «وهو المطالبة بزيادة الحوافز». ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: هل الوقت مناسب للمطالبة بالحقوق المادية في ظل الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد؟ فالبعض قد ينتقد هذا ويردد أن ذلك سوف يؤدي إلي ارتفاع نسبة التضخم، بينما الجانب الآخر يري أن هذه المطالبات مشروعة، حيث طال وقت المطالبة بها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماذا يحدث لو تحقق حلم المصريين بزيادة أجورهم وانتهت الاعتصامات ؟ فكيف تستطيع الدولة تدبير هذه الموارد في الوقت الذي تصل فيه موازنة الأجور في الموزانة العامة للدولة لعامي 2011-2012 إلي 70 مليار جنيه وحتي وإن بحثت الدولة عن بعض الآليات واستطاعت تدبير الرواتب فهل سيكون لذلك تأثير سلبي كما كان يؤكد النظام السابق وهي زيادة نسبة التضخم؟ فالمواطن العادي لا يعرف معني هذه الكلمة فكل ما يهمه هو زيادة راتبه لكي يستطيع أن يعيش بكرامة. تحاورنا مع خبراء الاقتصاد الذين أكدوا أن أحاديث الحكومات السابقة بشأن زيادة الأجور وأنها سوف تؤدي إلي زيادة التضخم كانت عبارة عن شماعة يعلق عليها النظام السابق أخطاءه وأنه لا مانع من تطبيق التسعيرة الجبرية في السوق لضبطها، موضحين أن المنظومة الاقتصادية السابقة عانت من أخطاء مما يتطلب البحث عن نظام اقتصادي جديد يتوافق مع متطلبات المرحلة المقبلة بعد الثورة. التقينا الدكتور صلاح الدسوقي الخبير الاقتصادي ورئيس المركز العربي للإدارة والتنمية لنطرح عليه ما عندنا من تساؤلات، وفي بداية حديثه معنا أكد أن ما يريده المصريون في الوقت الحالي «راتب محترم لحياة كريمة»، فهم يريدون مسئولين ينحازون للشعب، مؤكدا أن التضخم ليس فزاعة، ولكنه وهم، موضحا أن التضخم يمكن أن يحدث في حالة واحدة وهي «زيادة الأجور دون وضع حد أقصي للأجور»، وبالتالي فإن الحل بسيط ويكمن في وضع حد أقصي للأجور، فعلي سبيل المثال لو افترضنا أن رئيس الجامعة يحصل علي 850 ألف جنيه شهريا وعميد الكلية يحصل علي 250 ألفا، أما المعيد فيحصل علي 1100 جنيه شهريا فما المانع من إعادة هيكلة الأجور بوضع حد أقصي وبما يتماشي مع مبدأ العدالة الاجتماعية وأن يستحق العامل مقابل أداء وظيفته. ونبه د. الدسوقي إلي أن المسألة ليست مقتصرة علي زيادة الأجور فقط ولكن وضع نظام عادل للأجور من خلال جدول محترم للأجور للقضاء علي الخلل الذي حدث وأدي إلي محاباة مجموعة محددة من الأطراف الذين يدورون في فللك هذا النظام وأجور خيالية. وقال د. الدسوقي: إنه لا مانع من تطبيق التسعيرة الجبرية كنوع من ضبط السوق. ويضيف د. صلاح: إن متخذي القرار هم من يتمنون لهذه الدائرة المغلقة قاصدا «نظام الأجور» أن تبقي كما هي لأن إصلاحها يتعارض مع مصالحهم، مما يتطلب ضرورة المطالبة بإعداد جدول للأجور ووضع حد أقصي للأجر. وأضاف: إن موزانة الأجور في الميزانية الحالية 60 مليار جنيه وليس معني ما أقوله الآن هو تحمل عبء علي موازنة الدولة فلابد «من يأخذ ما لايستحق ومن يتقاضي أقل مما يستحق»، وبالتالي لن تحدث مشكلة تضخم. وقال د. الدسوقي: إن الثورة جاءت من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وبالتالي فنحن لا نعيش في محراب السوق الحرة لكي نظل فيه كما كنا قبل ذلك فلابد أن نكسر الصنم «قاصدا النظام الحر»، وأن نختار النظام الاقتصادي الذي يستفيد منه المواطن. من ناحية أخري يؤكد د. عبد المطلب عبد الحميد الخبير الاقتصادي ومدير مركز البحوث الاقتصادية بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية أن هناك مشكلة قائمة في مصر لم تعالج بعد وهي خلل الأجور وضعف الحوافز عند فئات كثيرة في المجتمع تطالب بتحسين مستواها المعيشي مثل الأطباء والمعلمين وغيرهما. إلخ، في ظل الأجور الضعيفة والأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشونها، مما يتطلب معالجة هيكل الأجور والحوافز، حيث كان ذلك وعدا مكررا من الحكومات السابقة، ولكنها مشكلة لم تعالج وخلقت أزمات ومن ثم تحدث من حين إلي آخر اعتصامات تنقلب إلي إضرابات. وأشار د. عبد المطلب إلي أننا إذا كنا نريد تحقيق الديمقراطية والحرية فهذا يرتبط بما سوف تصدره الحكومة. لافتا إلي أن حديث الحكومة المتكرر بشأن أن زيادة الأجور تؤدي إلي ارتفاع نسبة التضخم «كانت مجرد شماعة للنظام البائد، موضحا أن زيادة الحوافز مرتبطة بمستوي الأداء ولا يعقل أن نكرر نفس «الأسطوانة المشروخة» بأن زيادة الأجور تؤدي إلي مزيد من التضخم موضحا أن دول العالم تقوم بهيكلة الأجور والحوافز للموظفين العاملين بالدولة فلماذا لا نقوم بذلك كخطوة إصلاحية؟! وقال د. عبد الحميد: إن هيكلة الأجور ترتبط بإعادة النظر في منظومة الدعم حتي يتحول من دعم عيني إلي نقدي، وبالتالي فهذا يساهم في زيادة الإنتاجية وتحسين الأداء الاقتصادي. من ناحية أخري طرح الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد النجار رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الدراسات الإستراتيجية بمؤسسة الأهرام روشتة للنهوض بالاقتصاد، من خلال تحليله الاقتصادي للنهوض بالاقتصاد المصري من خلال عدة نقاط إضافية منها وضع نظام جديد للأجور ورفع الحد الأدني لأنه لابد من أي نظام للأجر أن يكون هناك حد أدني للأجر يرتفع سنويا بصورة تلقائية بنفس نسبة معدل التضخم علي الأقل للحفاظ علي القدرات الشرائية، وأن يكون هناك سقف للأجور وما في حكمها للعاملين في الجهاز الحكومي والقطاع العام والهيئات الاقتصادية، بحيث لا يتجاوز 15 ضعف الحد الأدني للأجر الشامل لتقليل الفوارق بين الطبقات، وتكريس قيمة العدل. وعن كيفية تمويل الزيادات في الأجور يقول د.النجار: يمكن تركيز مصادر التمويل في تحقيق العدالة في توزيع مخصصات الأجور وما في حكمها بين العاملين في الجهاز الحكومي والقطاع العام والهيئات الاقتصادية من خلال وسائل عدة من بينها إلغاء الدعم المقدم لشركات الأسمنت والأسمدة والحديد والألومنيوم في صورة دعم للغاز والمازوت والسولار والكهرباء التي تستهلكها تلك الشركات، لأنها تحقق أرباحا احتكارية استقلالية ولا يوجد مبرر أخلاقي أو اقتصادي لإعطائها الثروة الطبيعية أو الغازية المملوكة لكل أبناء مصر بأسعار منخفضة، ثم تبيع هي لهم منتجاتها بالأسعار العالمية أو بأعلي منها في الكثير من الحالات، هذا الإجراء وحده يمكن أن يوفر ما يكفي لإصلاح نظام الأجور. ولمواجهة أزمة البطالة الخانقة يقول الدكتور النجار: لابد من أن نبدأ بتقديم بيانات حقيقية وصحيحة حتي يمكن حشد المجتمع والدولة لحل الأزمة، لأن تقديم بيانات غير دقيقة لا يفيد في شيء بل علي العكس يؤدي إلي نوع من الاسترخاء والترهل في مواجهتها، كما أن سوق العمل المصرية تعاني من تشوهات جمة بدءا من تغول أرباب العمل علي العاملين لديهم وعدم التأمين علي غالبية العاملين، 53% من العاملين غير مؤمن عليهم وفقا لدراسة استطلاعية لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وتخفيض أجورهم بصورة مزاجية دفعت العديد منهم لتفضيل البطالة علي الاستمرار في أعمال لا تغطي تكاليف الذهاب إليها والعودة منها والمصروفات الضرورية أثناء العمل، كل هذه الأمور تستدعي إعادة النظر في ظروف وسوق العمل في مصر من خلال تفعيل دور المجلس القومي للأجور في وضع حد أدني جديد للأجر يتلاءم مع تكاليف المعيشة ويتغير سنويا بنفس معدل التضخم المعلن رسميا مع مراجعة هذا الحد الأدني كل ثلاث سنوات لاستيعاب المستويات الحقيقية لارتفاع الأسعار التي تزيد عادة علي معدلات التضخم المعلنة رسميا من الحكومة. وأكدت الدكتورة ليلي خواجة أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة أن المصريين دائما لديهم هاجس زيادة الأجور حتي لو كان أجرهم يتعدي 2000 جنيه، لكن بعد أحداث يناير وظهور الملايين والمليارات المنهوبة اتضح لديهم أنهم كانوا أمام أكبر شبكة فساد، فمن حقهم الحصول علي ما تم نهبه منهم علي مدي 30 عاما، خاصة أنهم تناسوا تماما أن الاقتصاد المصري وقع في فخ الفاسدين وتحقيق المصالح الشخصية علي مدي أكثر من عشرين عاما. وأضافت د. ليلي: إن مصر لها قواعد وضوابط لا يمكن الخروج عنها خاصة أن الأجور سواء زيادتها أو انخفاضها ترتبط ارتباطا وثيقا بالناتج القومي وارتفاع الأسعار وأزمة التضخم، فكلها كلمات تعتبر أوجها لعملة واحدة. في ظل أن كثرة الاعتصامات هي عبء علي الموازنة لأنه بسبب هذه الاعتصامات ينخفض الإنتاج إلي درجة أنه من الممكن أن ينعدم في كثير من الأحيان خاصة أن جميع الاعتصامات والمطالب الفئوية تكون من مصادر الخدمات طويلة الأجل أي صعوبة الحصول علي دخل في نفس اليوم، وبالتالي يصبح الدخل غير ملموس، فضلا عن أنه يكون تراكميا في نفس الوقت. وأكدت د. ليلي أن المعلمين يتحايلون علي زيادة الأجور من خلال الدروس الخصوصية أي أنهم يحسنون دخلهم من جيوب المواطنين! وأخيرا أضافت د. خواجة: إن مصر عانت من نظام اقتصادي غير متزن يجبر المواطنين علي تحمل عدم زيادة الأجور حتي تتم إعادة هيكلة الاقتصاد علي أساس سليم. بالإضافة إلي أنه لابد من وضع ضوابط إيجابية سليمة للتخلص من سوء التوزيع والبحث عن طرق إنتاجية صحيحة بعيدة تماما عن المنظومة الاقتصادية الخاطئة حاليا. بينما يري الخبير الاقتصادي الدكتور سعيد عبدالخالق أن زيادة الأجور هي حاصل ضرب زيادة الإنتاجية، فإذا انخفضت الإنتاجية سوف تنخفض الأجور بشكل غير متوقع، والعكس صحيح، بالإضافة إلي أن ضرائب الدولة من الإنتاج وحجم الصادرات في مصر يعاني من عجز في الميزان التجاري، أي أن وارداتنا أكبر من صادراتنا، وأيضا مصر تعتمد علي الآخرين بشكل أساسي في سد احتياجاتنا في ظل موارد الدولة المحدودة خاصة أن احتياج المواطن المصري في تزايد مستمر. فيوم بعد يوم نجد أن المواطن تزيد نسبة احتياجاته الغذائية والطبية لنسبة تصل إلي 9% يوميا. وأضاف د. عبدالخالق: إن إيرادات الدولة وعجز الموازنة في وضع خطير جدا في ظل الأحداث المؤسفة المتتالية حتي انتهت بأحداث السفارة الإسرائيلية، فلابد من زيادة الإنتاج حتي تكفي الموارد، فإذا نظرنا للموازنة العامة للدولة سنجد أن هناك فرقا كبيرا جدا بين العائد والديون الداخلية والخارجية للدولة. ويقول د. سعيد إن الدولة تحدد هذه الأجور بعد رحلة طويلة من الدراسة والبحث، لأن المواطن يحصل علي خدمات مجانية، فعلي سبيل المثال التأمين الصحي، والتعليم المجاني وإنفاق الدولة علي مصادر الطاقة، فالمواطن يحصل علي أنبوبة البوتاجاز وبطاقة التموين التي تحتوي علي احتياجات المواطن اليومية بأسعار مدعمة حتي لو كان هناك مافيا تحصل علي هذا الدعم، لكن المواطن يحصل علي جزء منها. لذلك لابد من وضع رؤية أو نظرة كاملة للدخل النقدي مع الوضع في الاعتبار الخدمات المجانية التي يحصل عليها المواطن. وأخيرا أكد د. سعيد أنه لابد أن يبدأ المواطن مرحلة جديدة قائمة علي الوقوف بجانب الوطن والدولة لأن الظروف الحالية تضع الدولة في أعباء تجعلها لا تستطيع الخروج من هذا المأزق، لذلك لابد علي المواطن أن يهتم بالإنتاج والعمل وعجلة الإنتاج حتي يضمن المساواة في المعيشة والرواتب وغيرها. فالدور الآن أمام المواطن فهو الذي يعطل الإنتاج وهو الذي يقلل المنتجات، وفي النهاية يطلب زيادة الأجور، فهي خلطة بعيدة عن اتزان الميزان.