لم ينل شيخ للأزهر مثلما نال فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود من الذيوع والشهرة وحب الناس وذلك لجرأته وغيرته على الإسلام وأمانته وزهده فى كل متاع الدنيا الزائل وحرصه على كرامة العلم والعلماء. .. لقد كان الإمام عبدالحليم محمود إذا تحدث، لاتظن أنه يخطب أو يحاضر بل تشعر أنه يتكلم من قلبه ووجدانه، وتشعر فى نبراته بالصدق مع الله ومع النفس ومع الناس، وكان إذا صمت تعلوه مهابة وإذا تكلم حديثه ينبع من قلبه فيتأثر الناس به ويقتنعون. روى عنه أنه بعد عودته من فرنسا فى فترة رئاسة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان الشيخ «عبدالحليم» يرتدى «البدلة»، وفى خطاب ألقاه عبدالناصر قام بالتهكم على علماء الأزهر، وقال عليهم «إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه».. فهل صمت الرجل وتواطأ؟ هل اعتبر ذلك مزحة من السيد الرئيس ومداعبة يتبسم لها وتمر مرور الكرام وكأنه لم يسمعها؟ لا لم يفعل الرجل أيا من هذا، بل اعتبر ذلك إهانة له ولمشايخ الأزهر ولعلماء المسلمين، فجاء رده حازما قاطعا مؤثرا مهذبا بلا ضجيج.. فما الذى فعله؟.. قام بخلع «البدلة» وارتدى الزى الأزهرى، وطالب زملاءه أن يحذو حذوه، فاستجابوا له كنوع من التحدى بموقفه هذا، فزاد تقديرا واحتراما.. ورفع هذه الإهانة عن الأزهر وعلمائه. موقف آخر كان الشيخ فى زيارة رسمية للمملكة البريطانية بصحبة الرئيس السادات عليهم رحمة الله جميعا ومن مراسم الاستقبال فى إنجلترا أن تقف الملكه الأم إليزابيث وعلى مسافة معينة منها يتقدم الضيف للسلام عليها وهذه المسافة تجعل من يقف أمامها ويسلم عليها ينحنى لها بدون قصد وذلك لبعد المسافة المقصود منها انحناء من يسلم على الملكه فجاء دور الشيخ فلم يسلم عليها وإذا بالملكه تنحنى هى للشيخ ويلحق بها من هم بجوارها وادعوا أن الملكة تعثرت وكادت أن تقع وحينما سألوها فى الصحافة البريطانية والأجنبية الأخرى التى كانت تتابع الزيارة عن ذلك أجابت الملكه والله إن لهذا الرجل لهيبة لم أستطع مقاومتها.. نعم إنها هيبة العلماء الأجلاء. ومن مواقف الشيخ الشجاعة ما أبداه تجاه المحكمة العسكرية التى تصدت للحكم فى قضية جماعة التكفير والهجرة المصرية، وكانت المحكمة قد استعانت بعدد من علماء الأزهر لإبداء الرأى فى فكر هذه الجماعة، غير أن المحكمة لم تسترح لرأيهم، وكررت ذلك أكثر من مرة، وكانت فى عجلة من أمرها؛ الأمر الذى جعلها تصدر أحكاما دون استئناس برأى الأزهر.. لم تكتف هذه المحكمة بذلك بل تضمن حكمها هجوما على الأزهر وعلمائه، وقالت: إنه كان على المسئولين عن الدعوة الدينية أن يتعهدوا الأفكار بالبحث والتدبر بدلا من إهمالها وعدم الاعتناء بمجرد بحثها، ولمزت المحكمة علماء الأزهر بقولها: «وا أسفاً على إسلام ينزوى فيه رجال الدين فى كل ركن هاربين متهربين من أداء رسالتهم أو الإفصاح عن رأيهم أو إبداء حكم الدين فيما يعرض عليهم من أمور، فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر على أداء الرسالة».. كانت كلمات المحكمة قاسية وغير مسئولة وتفتقد إلى الموضوعية والأمانة، وهو ما أغضب الإمام الأكبر لهذا الهجوم العنيف، فأصدر بيانا امتنعت معظم الصحف اليومية عن نشره، ولم تنشره سوى صحيفة الأحرار. فى هذا البيان اتهم عبد الحليم محمود المحكمة بالتعجل وعدم التثبت، وأنها لم تكن مؤهلة للحكم على هذا الفكر، وأنها تجهل الموضوع الذى تصدت لمعالجته، وكان يجب عليها أن تضم قضاة شرعيين يقفون موقفها ويشاركونها المسئولية ويتمكنون من الاطلاع على جميع ظروف القضية ونواحيها فيتمكنون من إصدار الحكم الصحيح واتهم الإمام المحكمة بأنها لم تمكن علماء الأزهر من الاطلاع على آراء هذا التنظيم أو الاستماع إلى شرح من أصحابه، والاطلاع على جميع الظروف التى أدت بهم إلى هذا الفكر، واكتفت بأن عرضت عليهم المحضر الذى سجلته النيابة من أقوال ومناقشات، وهذا لا يرقى أن يكون مصدرا كافيا يقوم عليه بحث العلماء، أو أساسا متكاملا تصدر عليه أحكام. وهكذا، كان للأزهر فى عهد الشيخ «عبدالحليم محمود» فى كل قضية تتعلق بالمسلمين رأى ومقال، فاسترد الأزهر هيبته، واستعاد دوره فى خدمة الإسلام والمسلمين. وكانت أشهر مواقفه عندما فوجئ - بعد قرابة العام من ممارسة مهام منصبه فى مشيخة الأزهر - بصدور قرار من رئيس الجمهورية فى 7 يوليو 1974 م بتنظيم شئون الأزهر وتحديد مسئولياته على أن يكون الأزهر تابعًا لمسئولية وزير شئون الأزهر؛ مما أفقد الأزهر استقلالَه، وجرد شيخ الأزهر من اختصاصاته، فما كان منه إلا أن قام بتقديم استقالته فى1 أغسطس 1974م لرئيس الجمهورية احتجاجاً على هذا القرار الذى اعتبره عائقاً أمام أداء رسالته. وتدخل العديد من الشخصيات السياسية وكبار علماء الأزهر لإثناء الشيخ عن الاستقالة، لكنه أصر عليها، وامتنع عن الذهاب إلى المكتب، كما رفض استلام راتبه، وطلب تسوية معاشه...أثارت تلك الاستقالة رد فعل فى مصر ومختلف البلدان الإسلامية، وتقدم على إثرها أحد المحامين برفع دعوى حسبة أمام القضاء الإدارى ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف يطلب وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية. فى مواجهة كل ذلك، لم تجد السلطة سوى معاودة النظر فى القرار الذى أصدرته ودراسته من جديد، ومن ثم أصدرت قراراً يضع الأمور فى نصابها الصحيح، جاء فيه: شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه فى كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية فى الأزهر.. وكذلك تضمن القرار أن يُعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه فى الأسبقية قبل الوزراء مباشرة. وهكذا انتهت الأزمة، ليعود الشيخ لممارسة مهام منصبه، ويذكر أنه عقب وفاته صدر قرار يساوى منصب شيخ الأزهر بمنصب رئيس الوزراء. الأسبوع المقبل نواصل هذه السيرة العطرة.