فى ظل زحمة الحياة ورتمها المتسارع تسقط من حساباتنا بعض القيم، وتضيع من أولوياتنا معانٍ أساسية تميزنا كبشر، وننشغل عن أولادنا بتأمين مستقبلهم، ونغفل توجيههم، فلا قدوة ولا تربية! ثم نفاجأ بحالات تنمر فى المدرسة، أو عنف لفظى أو جسدى فى النادى، أو نقابل فى كل مكان نفسيات مريضة لا همّ لها سوى كسر خاطر الناس! ببساطة هذه هى النتيجة الطبيعية لظاهرة غياب دور البيت فى التنشئة.
وإذا كنا نربى أولادنا على الالتزام الشكلى بالدين، «صلى»، «صوم»،.. فإن ذلك أسهل كثيرًا من أن نزرع فيهم روح الدين والإنسانية والرحمة لأنها تحتاج وقتًا ومجهودًا ورسم قدوة وليس مجرد إعطاء أوامر! ولا شك أنه بمجرد رؤية شاب أو طفل يساعد زميله الأضعف، أو يسانده ضد أى أذى أو تنمر يعكس فورًا صورة الأهل الواعين الذين حرصوا على غرس بذور الرحمة فى أولادهم، وقيم مثل الرحمة بالإنسان والحيوان، وجبر الخاطر، والمحافظة على مشاعر الآخرين، تبدأ من سن مبكرة. فشخصية الطفل تتكون فى سنواته الأولى، لذا كان من الضرورى اللجوء للرأى والخبرة النفسية والسلوكية لوضع روشتة وقاية، قبل الحاجة للعلاج، ورسم طريق بخطوات واضحة ليسير عليه أولادنا لرفع قيم الإنسانية والرحمة وجبر الخاطر.
معادلة ثلاثية هاجر سعيد فرحات استشارى علم النفس الإكلينيكى تقول: «لا ينفصل جبر الخواطر عن ثقافة تقبل الآخر وثقافة التعاطف مع الغير، فالثلاثة متلازمة ونقص ضلع من الثلاثة هو ما يؤثر على تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان. ومن المؤكد أن البيت هو منبع المهارات الاجتماعية التى يتعامل بها الطفل داخل وخارج المنزل، وهو الأساس الذى يشكل شخصيته، وكل تصرف أفعله كأم أو أب أمام طفلى سيمارسه فى دائرته الصغيرة بالمنزل، ويأخذه معه خارجه فى دائرته الاجتماعية الأكبر». تضيف: «لاحظنا فى الفترة الأخيرة انتشار سلوكيات غريبة وغير سويّة بين الأطفال كالتنمر وإيذاء المشاعر وهو ما يعكس أنه من بيت متنمر غير متقبل للاختلاف وغير متعاطف مع الغير.. فإذا أردنا نفسية سويّة لأطفالنا يجب أن نكون قدوة لهم، ونبدأ بأنفسنا فالقاعدة الذهبية فى تربية طفلك «تعامل مع طفلك كما تحب أن تُعامَل أنت». تكمل هاجر: «للأسف تجد الناس فى مجتمعنا يصلون ويصومون ويتغافلون عن جبر الخواطر مع أنها من أهم العبادات، واسم الله الجبار يشتق من أنه القادر على ترميم نفوسنا وآلامنا وبث السلام والطمأنينة فى قلوبنا، وجبر الخواطر والكلمة الحلوة كانت عادة أصيلة فى مجتمعنا، وعادات مثل زيارة المريض لنجبر خاطره، أو تقديم واجب العزاء لأسرة متوفى فنحن نجبر خاطرهم». «حتى الابتسامة فى وجه إنسان لا تعرفه فى الشارع، بترسل رسايل طول الوقت بالتعاطف والتسامح والإنسانية.. فجبر الخواطر من أهم سمات الشخصية المطمئنة صاحبة السلام النفسى». تضيف استشارى علم النفس هاجر فرحات: «إذا انتقلنا لكيفية تربية أولادنا على ذلك فيجب أن نبدأ معه من سن الرابعة أو الخامسة، حيث يمتص كل السلوكيات وتتحدد سماته الشخصية فى هذه السن المبكرة، فهو يجيد التحدث ويفهم التصرفات، فأوضح له فى هذه السن أهم أمثلة الدعم والجبر النفسى لمن حولى، وأفهمه أن الكلمة الحلوة، والابتسامة اللطيفة، والسؤال على المريض، ومساعدة المحتاج، والتعاطف مع من يستحق.. كلها وجوه فى شخصيتى أصدرها له لأكون مثلاً وقدوة، وأحببه فى ذلك وأشرح له ما يعطينى ذلك من سلام نفسى وسعادة وراحة فيشعر بقيمة هذا التصرف». وأوضحت هاجر عدة خطوات يجب الحرص عليها لدعم سلوك جبر الخواطر فى أطفالنا وقالت: «أولاً: يجب أن أزرع فيه التعاطف، وبطريقة عملية فكل طفل تكون داخله البذرة، لو رأى الأم حزينة أو تبكى، تجده أيضًا يبكى، دورى أن أسقى هذه البذرة لتنمو، فلا أرسل له إشارات خاطئة أن أصرخ فى وجهه، أو أبعده عنى، بل أعلمه لو رأينا أحدًا حزينًا أطبطب عليه، وأوجهه لذلك، لو «بابا جاى من الشغل مرهق نساعده» «لو ماما مريضة يرى الأب بيساعدها ومشفق عليها وأبين له بالكلام كيف أننا نشعر ببعض». ثانياً: عندما يبكى لعقاب أو فقده للعبة، لا أوبخه «وروح أوضتك».. «مش عايزة أسمع صوت» بالعكس أُشعره بأننى متفهمة شعوره، وواضعة نفسى مكانه، وهذا أول درس لو وضع نفسه مكان الآخر وشعر به بغض النظر عن الأسباب بتختفى القسوة من قلبه ويشعر بغيره». ثالثاً: التعبير عن المشاعر، فعلىَّ أن أشركه فى مشاعرى ليتعلم التعبير «أنا فرحانة علشان حصل كذا».. «حزينة بسبب كذا».. لو أخطأ وعوقب بعد العقاب أظهر تعاطفى معه فقد نال عقابه، ولكنى أحبه مهما فعل وأساعده وأدعمه».
وهناك لعبة بسيطة هى «صور الوجوه» الحزينة والسعيدة والخائفة، وكل الشعور وأحكى قصصًا توضح الصور وإحساسها، حتى يصبح قادرًا على قراءة مشاعر من حوله، ويحاول بذل مجهود لذلك، فلا يصبح غير مهتم بوقع كلماته على الآخر، ولا يصبح غير مقدر لشعور من حوله كما نرى ذلك فى أشخاص كثيرة»! ورابعًا: كما قالت هاجر إن التكنيك المهم أيضًا إرسال واستقبال كلمات المدح، والكلام الحلو، إذا تعود على المدح والشكر فى ذكائه وأخلاقه، ويتعلم أن يشكرنى على الأكل الذى أقدمه، له ويثنى على مساعدته وقتما يحتاجنى. ويتعلم الكلام الحلو.. واستقبال وإرسال كلمات المدح، لأن هناك ناسًا كثيرة لا تستطيع قول الكلام الحلو ولم تمارس فعل المدح». أما خامساً فلا بد من لفت نظر أطفالنا إلى الشعور بالآخر ليس مصمصة الشفايف، فمثلما هناك دمج فى المدارس لأصحاب الهمم، وهو شىء إيجابى، يجب أن يواكب ذلك زرع الوعى فى أطفالنا بالإحساس بهم ووضع أنفسهم مكانهم، ليس إحسانًا أو «يصعبوا عليا» أو شفقة ناحيتهم، بل الإحساس بمشاعرهم واحترامهم وتشجيعهم.. فهى أول طرق التعامل مع الآخر والمختلف».