رائحة اليود والصوت الهادر وعيونى تجتهد لإبصار «العظيم» فى آخر الشارع الضيق، «قدس الأقداس» الصاعد تدريجيّا فى مهابة تليق (ببوسيدون- نبتون- البحر)، الإسكندرية الفرعونية، البطلميّة، الإغريقية، الرومانية، العروس التى لا ينتهى عُرسُها، جميلة فى كل زىّ وكل عصر.. سيدة المتوسط بلا منازع، ومع الظهور المسرحى للمارد الباسم أمُدّ وجهى من نافذة السيارة، ألتقط الرذاذ وأنا أصيح فى هستريا صوتى الطفولى: البحر.. البحر.. البحر. المنتصف السور الحجرى مقعدنا الخالد نجلس فى صف طويل، ننظف أقدامنا من الرمال العالقة ونحن - الأطفال - لا نهدأ، صاخبين، نتقافز وقد لوحتنا الشمس وتقشّر جلدنا الرقيق، السور الذى لا يمنع مداعبة الموجات اللطيفة لملابسنا، تطرطش الماء ونكركر، منتعشين برابط الحب والفرح، لبحر شقى، نعرفه ولا نطيق صبرًا فى بُعدنا عنه. كيف تقنع طفلًا بالجلوس منتظرًا ليجف؟ ليبقى بعيدًا عن سحر البحر وألاعيبه وكنوز حكاياته؟ كنا مأخوذين بسحره كقراصنة، قواربنا من رمال تغرق مع كل موجة ولا ننهزم، نحن مريديه وأتباعه المخلصين يعرف قلوبنا الصافية، فيضمنا لساعات مدغدغًا أنوفنا الصغيرة يرفعنا يُقلبنا، نمضى إليه بلا كَلل، شاطئ (سبورتنج) هو قبلتنا الأثيرة - نحن سكان الإبراهيمية- حيث يقع فى المنتصف تقريبًا، لذا لو اتجهت شرقًا ستصل إلى المنتزه، هناك يتزايد زحام ضيوف الإسكندرية ويغيب أهلها عن ارتياد الشواطئ، ولكن أن اتجهت غربًا؛ حيث منطقة بحرى لمست قلب المدينة. حلم يتحقق لا أذكر كم مرّة توسلنا للذهاب إلى منطقة بحرى، فالحكايات عنها أشبه بألف ليلة ، تجلس أمّى وخالتى ترتشفان الشاى المدهش - إلى الآن لم أنجح فى عمل شاى له نفس الرائحة واللون والإحساس - نتحلق حولهما ننصت للقص ونحلم بعَروس البحر الكائنة فى متحف الأحياء المائية، نصعد مع الجيوش درجات سلم القلعة العالية، ونعود مع الصيادين فى رحلات الصيد نحارب النوّة. كنت أتخيلها امرأة كثيفة الشعر، عظيمة البطش تبتلع القوارب، كيف لا؟ وأسماء النوّات (نوّة عوّا ونوّة المُكنسة)، هكذا ما أن تنتهى حكاية من الحكايات العجيبة التى تجمعنا معهما ورابعنا الشاى الممزوج بالتشويق، حتى تبدأ توسلاتنا المعهودة للذهاب إلى بحرى. وفى لحظة مشرقة كأنها ليلة القدر تمت الموافقة والتخطيط للرحلة مع تعهد غليظ منا باتباع الأوامر وإحضار الخبز من دون إبطاء و(بلا لماضة) كما قالت أمّى، وبات الغد طويلًا وكان أول عهدى باللهفة التى لا تخفت إلّا لتعود. من بحرى وبنحبوه تكدسنا كالمعتاد فى السيارات، فنحن نجيد التكوُّم والتكوُّر وحشر جسدنا فى المساحة المتاحة، واتجهنا إلى الجهة الغربية للإسكندرية؛ نتابع المبانى العتيقة ذات الطرز الإنجليزية والفرنسية واليونانية كل مدن المتوسط فى مدينة واحدة فريدة فى تنوعها، ثم استدارت السيارة لتدور سبع دورات أمام المُرسى أبو العباس فلا يجوز المرور دون أن نلقى التحية، هكذا قالوا لنا مازحين، ثم أردف سائقنا الهُمام: اسمه أبو العباس المُرسى، وفى هذه المنطقة كانت الإسكندرية تعلمنا مرادفات أهل البلد (حمو - جِنى - ايووووو - فلفل كُوبى - بزله - جبنه تركى - مستيكة.... إلخ )، ذلك قبل مسلسل «الراية البيضاء» بأعوام كثيرة، ومن مقهى فى مكان ما ودعتنا أغنية هدى سلطان (من بحرى وبنحبوه على الإمّة بنستنوه) . رأس التين تستدير السيارة ونحن لا نصدق عيوننا قوارب الصيد المتناثرة والشباك المفرودة على طول السور الحجرى ملابس الصيادين وقبعاتهم البيضاء، لوحات مرصوصة تنتطر اقتناص رسام للحظة، سنوات طويلة أرسم تلك المنطقة ولا أكتفى. ومن بعيد تتراءى القلعة الساحرة التى بناها السلطان الأشرف أبو النصر قايتباى المحمودى عام 901 ه / 1495م ، على مساحة مستطيلة فى نهاية جزيرة فاروس، أخذنا نتقافز فوق الصخوريدفعنا الهواء للوراء ويبللنا رذاذ الموج، وكأنه حلم نعيشه جميعًا، تقابلنا مع عروس البحر وأذهلنا قبحها ( على عكس ما كنا نتخيل بالحكايات)، سبحنا مع الأسماك الملونة، حاربنا الوحوش وقتلنا سمكة القرش المحنطة فى متحف الأحياء المائية، المكان أبسط من الحسابات ومن الهموم، الصيادين فى سكينتهم يرددون فى أعماق الروح- الرزق على الله-، لم يقتحمه الباعة ولم تغلقه المقاهى بعد، كان زمنًا هادئًا، هى الإسكندرية الحبيبة للأبد.