(لو كان الفقر رجلاً لقتلته).. تلك المقولة التى يتغنى بها الفقراء حول العالم، باعتباره العدو الشرس الذى يقتل الحياة ويمنع الإنسان من التمتع بها والذى طالما جاهدت حكومات وأنظمة للقضاء عليه، وداعبت أخرى أحلام البسطاء بالعيش حياة هانئة راضية مستقرة دون الخوف من (عضة) الفقر وآلامه النفسية والمادية. من هنا تأتى أهمية كتاب «الثروة الكائنة فى أسفل الهرم» لمؤلفه سى. كيه. براهالاد، ليس لجودة محتواه أو قوة صياغته، ولكن لشهرة مؤلفه وقدرته على التأثير فى عالم السياسة والأعمال، حيث تشمل قائمة من امتدحوا هذا الكتاب أسماء مثل بيل جيتس، رئيس شركة مايكروسوفت، مادلين أولبرايت، الوزيرة السابقة للخارجية الأمريكية، كريستوفر رودريجز، مدير شركة فيزا العالمية ومارك براون، مدير برنامج الأممالمتحدة للتنمية. الكتاب عموما لا يبحث أسباب الفقر، وإنما يناقشها ضمن الحلول المقترحة، ويتناول ظاهرة الفقر من حيث انتهت مخالفا بذلك منهج البحث العلمى بشكل عام، حيث يجب قبل تقديم الحلول إعطاء وصف دقيق للمشكلة وأسبابها وأبعادها ولو بإيجاز. يرى الكاتب أن السبب الرئيسى فى فشل جهود معالجة الفقر هو النظر إلى الفقراء كضحايا لا قوة لهم ولا إرادة وليس كآدميين طبيعيين، مما يقصر مشروعات معالجة الفقر على الجانب الإغاثى، فيحصل الفقير على السمكة ولكنه لايحصل على شبكة يستطيع بها الصيد بنفسه، فيظل فى نفس الحلقة المفرغة من الفقر والاستجداء، وأن الحل الرئيسى هو فى تغيير هذه النظرة، بحيث يتعامل الجميع مع الفقراء على أنهم بشر لهم احتياجات وظروف يجب احترامها والتعامل معها بشكل واقعى ورابح لجميع الأطراف. الفقراء مستهلكون أقوياء! الجديد الذى طرحه براهالاد هو أن المدخل السليم فى التعامل مع الفقراء معاملتهم كمستهلكين أقوياء ذوى قوة شرائية عالية، وذلك بالنظر إلى العدد الإجمالى للفقراء، والذى يصل إلى ما بين 4 و5 مليارات إنسان يعيش كل منهم على دخل يومى فى حدود دولارين، ويقول إن الفارق فى قيمة العملة بين الدول الفقيرة والدول الغنية يزيد من القدرة الشرائية الفعلية للعملات الأرخص، مما يعنى أنه رغم الضعف الظاهرى لقدرة الفقراء الشرائية إلا أنهم فى الواقع مشترون لا يستهان بهم، ويرى أن القوة الشرائية لفقراء العالم تفوق «فعليا وليس نقديا»»القوة الشرائية لمجموعة من الدول الغنية تشمل المملكة المتحدة واليابان وألمانيا وإيطاليا مجتمعة. أما نقطة التقاء المصالح التى ينبثق منها الحل فهى إنتاج سلع وخدمات بمواصفات تحل مشكلات الفقراء وتتيح للشركات الكبرى أرباحا جديدة ونموا إجماليا عاليا، أى أن الحل هو إدخال الشركات الكبرى إلى المناطق الفقيرة بشكل مربح للطرفين، حيث يرى الكاتب أن النظرة التقليدية إلى الأسواق الفقيرة على أنها عبء، فالشركات الكبرى ترى أن الأسواق الفقيرة مليئة بالعقبات من حيث ضعف اتصالها بالعالم الخارجى - سواء عبر الطرق أو شبكات الاتصال أو وسائل الإعلام - وكذلك عدم القدرة على تبنى الأفكار الجديدة أو التكنولوجيا المتقدمة، ضعف أو عدم وجود شبكة توزيع وعدم الحرص على شراء منتجات عالية الجودة، كما أنها أسواق لا تجذب الكفاءات الإدارية والفنية للعمل بها. ومن وجهة نظر براهالاد أن كل هذه العقبات وهمية أو على الأقل يمكن التغلب عليها، حيث ساهمت النظم الإنتاجية المتقدمة والمنتجات المتفوقة لشركات أو مؤسسات ناجحة فى حل مشاكل الفقراء مع تحقيق أرباح عالية، ومن أجمل هذه الأمثلة ما حققته شركة هندية تعمل فى مجال الأطراف الصناعية من تخفيض سعر القطعة 1% من سعر مثيلتها المستوردة مع متانة ومظهر أفضل، وكذلك مؤسسة علاج العيون التى تعالج الفقراء مجانا، وتتقاضى من عملاء الطبقة المتوسطة الهندية مبلغا رمزيا مقابل عمليات معقدة وفى النهاية تحقق أرباحا عالية، وكان السر فى التنظيم العبقرى الذى اعتمد على طريقة (مكدونالدز) فى تجهيز الطعام، والتى تقوم على التكنولوجيا المتقدمة والتدريب المتميز وتحويل العمليات الإنتاجية إلى أجزاء سهلة متكررة، فتحولت العمليات الجراحية المعقدة إلى نمط يسهل تكراره عشرات المرات يوميا، وصار الجراح فى هذه المؤسسة يجرى أربعة أمثال العمليات التى يجريها نظيره فى العالم المتقدم، أما حل مشكلة عدم إقبال المديرين على العمل فى المناطق الفقيرة فهو أن تصبح تلك المناطق بؤرة اهتمام الإدارة العليا، مما يجذب إليها أفضل الكفاءات. والبديل العملى للوصول إلى المستهلكين فى المناطق الفقيرة - التى قد تخلو من السوق بمفهومه التقليدى - هو تكوين شبكة توزيع مباشرة للوصول إلى المناطق البعيدة دون حاجة للقنوات التقليدية للتوزيع مثل الموزعين والتجار، ومن هذه التجارب الناجحة ما يعرف بمشروع «شاكتى» بالهند الذى يتبع شركة «هندوستان ليفر»، الذى تقوم فكرته على اختيار وتدريب مجموعة من النساء القرويات لكى يعملن كموزعات، وذلك بتوفير العلم والمشورة وطرق لتوصيل المنتجات إلى قراهن، فتعرف كل منهن احتياجات القرى والمنتجات التى تطلبها، ويتراوح عائد الموزعة الواحدة ما بين 60-150 دولارا أمريكيا شهريا، وهكذا أصبح للنساء وعائلاتهن قدرة جديدة على الاستهلاك، والأهم من ذلك أنهن أصبحن بمثابة معلمات ووسيطات لمستهلكى «قاعدة الهرم» القرويين. ويرى الكاتب أن تعقيد القوانين وكثرة تفاصيلها هو أكبر أبواب الفساد المفتوحة أمام الموظفين، ويرى أن غياب القوانين المنظمة لعناصر الثروة يحبس ثروات وأموال طائلة عن الاقتصاد الوطنى للدول النامية، وهو يقدر هذه الثروات بحوالى 300 مليار دولار فى المكسيك و180 مليار دولار فى مصر، وهو ما يستوجب نظرة من العالم النامى إلى قوانينه المتخلفة. مواطن النقص والضعف كل هذا جميل، ولكن الكتاب حافل بمواطن النقص والضعف التى قللت كثيرا من قيمته، ومنها أن الفكرة الأساسية للكتاب «النظرة إلى الفقراء كمستهلكين هى الحل» مدخل هش؛ فمشاكل الفقراء مركبة ومتنوعة ولا يصلح لها قرص (أسبرين) - كما فعل المؤلف - وبالنسبة للفقراء فى كوريا الشمالية مثلا فإن الكتاب «خارج الخدمة» حيث لا توجد فيها شركات دولية أصلا، وهى دولة مغلقة لا يعرف أحد ماذا يجرى بداخلها. أيضاً يناقش الكتاب كيفية التعامل باحترام بين الشركات الكبرى وقلة مباشرة من المستهلكين فى المناطق الفقيرة، ثم تحويلهم إلى مسوقين لمنتجاتها، ويذكر شركة مستحضرات تجميل كمثال على التسويق المباشر الناجح فى المناطق الفقيرة فى البرازيل، ولكن لا يذكر كيف نجحت المستحضرات فى تطوير الحياة وإزالة الفقر لمستهلكيها، وكأن المطلوب هو «تجميل الفقر». كما يغفل الكتاب مبادرات الفقراء، ولايناقش أفكارهم وحلولهم الخاصة لمشاكلهم رغم تأكيده أنهم مبدعون وقادرون على التغيير، ولا يناقش - أيضاً - ضبط المعاملات من جانب الشركات الكبرى والمؤسسات، فهى دائما الطرف الأقوى قانونيا وماليا، كما أن الفقراء معتادون على بطش المؤسسات الكبرى أو على الأقل يخشون كثيرا من ذلك.. أيضاً فإن عنصر مثل الدين يغيب تماما عن الكاتب، وهو عنصر مؤثر فى عديد من الدول الإسلامية التى تحتاج إلى التوفيق بين النظم العالمية للمعاملات المالية وبين الاشتراطات الإسلامية لصحة هذه المعاملات. وفى النهاية، يجب ألا تغيب وجهة نظر براهالاد عن المهتمين بالقضاء على الفقر - سواء المجتمع المدنى أو الحكومات أو هيئات الإغاثة الدولية والإقليمية أو الشركات الكبرى ، أما الحل - طبقا للحقائق الواردة فى الكتاب - فهو بناء نظام متكامل محترم يشمل التعليم والتدريب والديموقراطية والقوانين وتطبيقها ثم دمج الفقراء فيه، فالفقير لا يصبح مواطنا محترما بمجرد تحوله إلى «مستهلك محترم»!• المؤلف فى سطور - «سى. كيه - براهالاد»، هو أستاذ كرسى «هارفى سى فروهاوف» لإدارة الأعمال وأستاذ استراتيجية الشركات والأعمال الدولية فى كلية إدارة الأعمال بجامعة ميتشجان بالولايات المتحدةالأمريكية. - مؤلف كتاب «التنافس على المستقبل» Competing for the Future الذى يعتبر من أهم كتب الأعمال على الإطلاق. - مبتدع مفهوم «الكفاءات المحورية» Core Competencies وعمل مستشاراً لعدد من أكبر الشركات متعددة الجنسيات، ومنها كوداك، فيليبس، كولجيت، موتورولا، ماريوت وأوراكل، وقد توفى فى 16 أبريل 2010. •