ضائعة على سواحل الغربة، كالنوارس التى تحط على حافة البحر فى رحلتها الأخيرة، أموت وحدى ذات مساء ضائع بين قلبى والمدينة، كالفراشات التى تحترق - وتواصل الاحتراق - على حافة الضوء الخديعة .. أحترق فى بدايات الضوء الهارب من عتمة الليل، الذى مازال يتعثر على مداخل الشوارع .. يا صاحبى الذى جاء من حقول الفول البعيدة، والبراح الحلم، إذا حطت يمامة بيضاء فى وداعة على صوتك، لحظة انكسار الضوء وصلاة الشمس الأخيرة، لا تطيرها بالغناء .. إنها روحى تهفو إليك . أين اختفت تلك الورقة كل هذا الوقت الميت وكيف ضاعت بقايا تلك اللحظة الهاربة من صباحات بعيدة، مازالت تحط فوق صدره كطائر خرافى، تنهش قلبه كل ليلة، ثم تحدفه إلى مقبرة بعيدة، لم يعد أحد يزورها، لم تعد أزهارها البرية تشب على حافة الفناء الترابى، ولم يعد حارس المقبرة العجوز يفتح الباب الحديدى فى صباحات الجمعة، ويرش الماء، يبكى بصوت عال حتى ينشرخ الصوت، وتنكسر الروح .. يقرأ الفاتحة . ثم يمضى من عتمة المقبرة .. إلى عتمة المدينة كما مضى أول مرة، وكما يمضى منذ ذلك الصباح البعيد، الذى رقص فيه الموت رقصته الأخيرة، ثم مضى حاملا بقايا روح كانت تحلق دوما فى الملكوت، وفى الليالى الطويلة - حيث يصبح النوم عذابا - يمضى خلف قلبه إلى تلك النافذة، يقف طويلا بجوار تلك الشجرة العجوز، التى كانت البنت جميلة تسميها المرأة الحالمة .
وفى الصباح .. يقسم للولد جودة، أنه رأى فى لحظة خاطفة كالبرق، نصف وجه جميل، وزهرة حمراء وحيدة، أين اختفت تلك الورقة، التى ظل يبحث عنها أياما طويلة، يداهمه حلم واحد لا يتغير، يطارده فى ليالى الحزن التى صاحبته طويلا، أن البنت جميلة جاءت ذات مساء .. أخذت ورقتها ومضت، كما سرقت قبل ذلك سر الحياة والموت .. حتى لا يمتلك أحد روحها، عبر ورقة صغيرة، الورقة الطوطم، التى تفك أبجدية الماء والنار، يستيقظ فزعا، يحاول أن يطارد تلك الكلمات عبر الذاكرة المراوغة دون جدوى، ها هو الآن فجأة .. يمد يده ليأخذ كتاب عشرة أيام هزت العالم، فتسقط من بين الأوراق، كما يسقط طائر صغير تعب من كثرة الترحال والريح العصية، مازالت رائحة البنت جميلة، تسكن أحرفها الصغيرة، التى كتبتها ذات مساء على حافة النهر . وقالت هذا ما تبقى من رحلتنا يا صاحبى
∎ قال ضاحكا : أنا الولى الذى كفر .. أرفع عنك لعنة الموت يا سيدتى
- وأنا الكافرة التى لا تريد أن تكون وليا .. أمنح العابرين لعنتى يا صاحبى
∎ لماذا تهاجر كلمة حبيبى شفتيك .. كما تهاجر العصافير أعشاشها لحظة المطاردة الليلية ؟
- الحب فى هذا الزمن، كما يقول صلاح عبدالصبور، كالحزن .. لا يعيش إلا لحظة البكاء.. أو لحظة الشبق .. الحب بالفطانة اختنق
∎ أصدق محمود درويش حين يقول .. أموت اشتياقا .. أموت احتراقا .. وشنقا أموت .. وذبحا أموت .. لكننى لا أقول .. مضى حبنا وانقضى .. حبنا لا يموت
- يكفى موت واحد
∎ أموت لأبعث فيك
- إلا الموت يا صاحبى .. إلا الموت
∎ وما بيننا ؟!
- ما بيننا .. يظل بيننا
وها هو الموت يا سيدتى - يأتى دائما كعادته فى المساء - فيأخذ ما بيننا، يقطف زهرتك الحمراء الوحيدة، التى تشب فوق قلبى حين أقبلك، ويرحل عبر النافذة التى تفصل ما بين الحياة والموت، وأنا .. أفر من الحزن إلى الحزن .. يطاردنى موتك .. فأهرب إلى موتى .. أخبئ قلبى فى زوايا الغرفة، وبين الكتب القديمة، حتى لا تخطفه طيور الحزن السوداء، وتتركه منسيا خارج أسوار المدن المسحورة، فى الأرض الخربة، فتتخاطفه العنقاء وطيور النار .. أفر من كل الزهور الحمراء .. حتى أزهار البانسيانا التى كنا نأكلها زمان فى شارع محب، صارت يا سيدتى مثل قنينة الخمر القديمة، حين تنكسر على قلبى، فينبثق الدم، يسقط القمر مخنوقا على ساعدى، تغنى له بنات الحور سدىً، لا شب على قدميه، وعاد إلى تلك النجمة التى تخبو بعيدا، ولا استرد روحه، ومضى يستحم فى بحيرة المساء، لم يعد يكفى موت واحد يا سيدتى .. الموت يسكننا .. نحن موتى نمضى عبر زمن ميت دون نعش، نضيع بين قبور حجرية، لم تكتب شواهدها بعد .
لم يعد يذكر الآن كم مر على ذلك الصباح الفجيعة، رغم أنه ظل لأيام طويلة، يكتب تاريخه فوق الأوراق والقصائد، والكتب التى لم يتم قراءتها أبدا، ومفارش الموائد فى المقاهى والمطاعم، فوق نوافذ عربات الترام آخر الليل وعلى مشارف ضحكة الولد جودة المتكسرة دوما على بدايات السعال الحاد، لكن الأرض لا تكف عن دورانها، فتختلط التواريخ والملامح والأصوات، ترتج الروح الواقفة بين العتمة والعتمة، ثم تردد خلف الكروان أغنيته الحزينة على مشارف الغروب . كم مر على ذلك الصباح الفجيعة يا صاحبة الزهرة الحمراء الوحيدة ؟! وهل يغسل ماء النهر دمى، ويطهرنى ملح البحر من عذاباتى ؟! أنتبه على صوت صديق زميله فى السكن، وهو يتحدث فى التليفون، كانت الشمس تحبو فوق سور الشرفة الحديدى، وتمد أظافرها وتخمش جلده، تلك النافذة التى تطل على ميدان الجيزة، وتهدأ فيها روحه الضائعة كل ليلة حتى بدايات الصباح، منذ أن انتقل إلى تلك الشقة الواسعة
- هو الذى لم يعرف غير الغرف الضيقة فوق الأسطح - منذ عدة أشهر .. يومها .. بكت البنت شطة، قالت وهى تمسح دموعها بكم الجلباب
- أنت الوحيد اللى كان بيهش الغربة عن روحى
أراد أن يصرخ فيها بعزم الروح .. ومن يهش الغربة عن روحى يا شطة .. أنا الراحل فى المدى .. وموتى فوق كتفى بعد أن تعبت من ترحالى الملائكة، وأنا .. أخاف الموت يا شطة، أنا الخائف المقتول بين موتين .. موت البنت جميلة .. وموتى .. أراد أن يصرخ حتى يتناثر زجاج تلك النوافذ الميتة.. أنا الولى الذى ألبسه جده عباءة الولاية، قرأ فوق رأسه .. فكشفنا عنك غطاءك .. فبصرك اليوم حديد، ثم طيرنى عبر الدنيا، دون أن أتهجى طقوس العشق والوجد .. سر الماء والنار .. فصرت كافرا .. عاجزا .. ضائعا .. لا كسرت لعنة البنت جميلة .. ولا حللت أكفانى الثقيلة.
أراد أن يرتد طفلا صغيرا يفر من الوسعاية، ليبكى على صدرها، لكنها فى نفس اللحظة .. ارتمت فى صدره وراحت تجهش بالبكاء، كانت رائحة غريبة، أقرب إلى رائحة الحناء، تفوح من شعرها، الذى ربطته بمنديل أبيض، ربت على كتفها .. أعطاها عنوان الشقة ورقم التليفون .. ألح عليها أن تأتى لزيارته، لأنه لن يستطيع أن يعود إلى تلك الزنزانة مرة أخرى، حتى ولو لدقائق قصيرة، وعدته أن تزوره - كما يعده الجميع ثم يختفون فجأة -حمل حقيبته .. هبط السلم مسرعا .. وكان بكاؤها المتواصل يقفز خلفه .. ويخنق روحه .
أشعل سيجارة .. راح يراقب الميدان الواسع .. باعة اللبن يعبرون الميدان فوق دراجاتهم، ويطلقون أجراسها بشكل متواصل .. عامل المقهى القريب .. يرش الماء فوق الرصيف، ثم يبدأ فى وضع المقاعد والموائد، بعض العمال يتناولون إفطارهم أمام عربة الفول بجوار موقف الأتوبيسات .. صافرة قطار الصعيد تأتى من بعيد .. فتطلع تلك الأغنية القديمة على حافة القلب كشجرة الأحلام .
يا وابور الساعة اتناشر .. يا مجبل على الصعيد
أمانة عليك يا مروح .. خدنى لبلدى البعيد
الأغنية التى كان الشاويش عمر يرددها فى صباحات تلك التبة الترابية الموحشة، تطلع على حافة الماء كزهرة الليمون .. وتكتب أغنية الريح المهاجرة، فلا ركب القطار إلى بلدته البعيدة ولا ظل يطلق ضحكة العصافير فوق التبة، ظل يغنى حتى خطفته الدنيا ذات صباح .. وها هى صافرة قطار الصعيد تغنى له أو تنعيه ذات صباح مثله، تناديه عبر تقاويم الوقت، ليصعد مرة أخرى إلى تلك التبة البعيدة، أو تحمل نعشه الوهمى وتمضى إلى مقبرة قديمة فى حضن الجبل، ترى هل عاد الشاويش عمر بعد تلك السنوات، أم مازال ضائعا فى الملكوت ؟ أم خطفته الجنية اللعينة ؟! وأين اختفى الصول سنوسى هو الآخر ؟!
لقد ذهب الأسبوع الماضى، إلى الليلة الختامية لمولد السيدة زينب مع بعض الأصدقاء، طافوا بين خيام المريدين، وحلقات الذكر والإنشاد، والمقاهى التى تحتل الأرصفة، شربوا شاى أخضر، التفوا بعباءة الوجد واستراحوا، حتى انفرطت عناقيد الضوء، فوق العمائم والطواقى والخيام القديمة، فمضوا عبر بقايا الليل فى الميدان الواسع إلى الشوارع التى مازالت تحبو على بداية النهار، دون أن يرى الصول سنوسى الذى قال له ذات نهار بعيد، أنه من محاسيب الست، هل مات ؟! أم اختفى عندما طيره العشق فى رحاب السيدة ؟!
أم مضى خلف حلم قديم.. أن يجد الشاويش عمر ؟! أم كان جالسا خلف إحدى النوافذ الكثيرة المفتوحة على الضوء والصخب، يتفرج على تقاسيم الوجد والدروشة، بعد أن تحول الجسد الضخم، إلى قطعة من اللحم فوق مقعد لا يتوقف عن الأنين ؟! لو كان معه عنوانه لذهب يسأل عنه، لكن العنوان ضاع منه، كما ضاعت آلاف الأشياء من أيامه المثقوبة، حتى إنه لم يعد يبحث عنها.
بدأت الشمس تموء على وجهه.. ويتعالى ضجيج الباعة والعربات، قرر أن يهرب من تلك الأيام البعيدة التى مازالت تطارده، كأن تلك المدينة الحجرية لا تحيا إلا فوق الأوراق القديمة والصورة التى تمزقت عبر الذاكرة، فصارت أنصاف وجوه .. وأشباه ملامح .. أو كأن تلك الأوراق والملامح وبقايا الأيام، هى التى تمنحنا القدرة على الاحتماء خلف أحلامنا القديمة، قبل أن تنهار تلك الحجارة الغبية فوق ما تبقى من أحلام .. وأوراق . قرر أن يهرب إلى لا باس.
كان المكان خاليا كما توقع.. وإن كانت رائحة الضحكات والأحلام مازالت فوق المقاعد، والجدران، وعلى صوت الجرسون النوبى العجوز، تغير المكان كما تغيرت أماكن كثيرة، وصارت محلات للأحذية، وهاجرت الوجوه التى أحبها إلى أماكن أخرى فى وسط البلد، أو على أطراف المدينة، شرب قهوته وقرأ جرائد الصباح ثم مضى إلى ريش، كان شوقى يجلس مع صديقته كاميليا، التى قطع علاقته بها عشرات المرات، وفى كل مرة يقسم أنه لن يعود إليها ثانية، حتى قال خميس ضاحكا .
- شوقى شايل كاميليا على ضهره زى القتب، لو اتخلص منها .. يموت جلس معهما .. طلب زجاجة بيرة .. فجأة .. صرخ أحد الباعة فى مدخل المحل القريب قتلوا السادات.
شبت المدينة على أطراف أصابعها.. رأت الأشجار قادمة من بعيد.. وكان الرعب يطفو على ساحل النهار.