ختام فعاليات التدريب البحرى المشترك "الموج الأحمر- 7" بالمملكة العربية السعودية.. صور    «نقل النواب»: نطمح في مزيد من الاتفاقيات والتحالفات العالمية بقطاع المواني    «التجارة» تقرر إنشاء شعبة لشركات النقل الجماعي والرحلات بالسويس    الرئيس العراقي: غزة تشهد إبادة جماعية بكل المقاييس    الرئيس الفلسطيني يطالب الدول الصديقة بمراجعة علاقاتها مع إسرائيل بسبب حرب غزة    من يتفوق في النهائي الثالث .. الأهلي أم الترجي؟    جمارك مطار الغردقة تضبط محاولة تهريب كمية من مخدر الحشيش    رابط وخطوات الاستعلام عن نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024    الخط الساخن للإقلاع عن التدخين يستقبل 8 آلاف مكالمة.. والقاهرة في الصدارة    جامعة أسيوط تنظم احتفالية السلامة والصحة المهنية الأحد    وزيرا الرياضة والتخطيط يبحثان تقييم عروض إدارة وتشغيل مدينة مصر الأولمبية    في اليوم العالمي للعيش معًا في سلام، حكماء المسلمين: ما أحوج عالمنا إلى صوت السلام    قطع مياه الشرب عن 6 قرى في سمسطا ببني سويف.. تفاصيل    هدى الأتربي تخطف الأنظار بإطلالة جريئة وجذابة في مهرجان كان (صور)    القوات الروسية تسقط 3 مقاتلات "ميج-29" أوكرانية    تضامن الفيوم تنظم قافلة طبية تستهدف المرضى غير القادرين    أتلتيك بيلباو يحبط برشلونة بسبب ويليامز    الجمعة .. انطلاق نصف نهائي بطولة العالم للإسكواش بمصر    الخارجية الكورية الجنوبية تعرب عن تمنياتها بالشفاء العاجل لرئيس الوزراء السلوفاكي    عالم الزلازل الهولندي يثير الجدل بحديثه عن أهرامات الجيزة    محافظ المنيا: قوافل بيطرية مجانية بقرى بني مزار    سفير فلسطين في موسكو: الوضع الكارثي في غزة يعيد إلى الأذهان حصار لينينجراد    آرسنال يكشف عن قميصه للموسم الجديد 2024-2025    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان أعمال تطوير مستشفى حميات ديروط    غدا.. إعادة عرض فيلم "زهايمر" احتفالا بميلاد الزعيم    جامعة المنوفية تتقدم في تصنيف CWUR لعام 2024    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات فلكيًا.. (أطول إجازة رسمية)    ببرنامج "نُوَفّي".. مناقشات بين البنك الأوروبي ووزارة التعاون لدعم آفاق الاستثمار الخاص    معهد التغذية: نسيان شرب الماء يسبب الشعور بالتعب والإجهاد    «التربية والتعليم» تنظم فعاليات مسابقة المعلمة الفعالة    تراجع دور بيلينجهام في ريال مدريد بسبب مبابي    "العربة" عرض مسرحي لفرقة القنطرة شرق بالإسماعيلية    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعة بنها وجامعة ووهان الصينية    لهذا السبب.. ياسمين عبد العزيز تتصدر تريند "جوجل"    توقيع بروتوكول تجديد التعاون بين جامعتي بنها وووهان الصينية    أمير عيد يؤجل انتحاره لإنقاذ جاره في «دواعي السفر»    بدء التعاقد على الوصلات المنزلية لمشروع صرف صحي «الكولا» بسوهاج    جيش الاحتلال: مقتل 5 ضباط وجنود وإصابة 8 آخرين في جباليا شمال غزة    قرار قضائي جديد بشأن سائق أوبر المتهم بالاعتداء على سيدة التجمع    «الصحة» تقدم 5 إرشادات مهمة للوقاية من الإصابة بالعدوى خلال فترة الحج 2024    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    المشدد 6 سنوات لعامل ضبط بحوزته 72 لفافة هيروين في أسيوط    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العجوزة    وزيرا النقل والري يبحثان تنفيذ المحاور الرئيسية أعلي المجاري المائية والنيل (تفاصيل)    «الداخلية»: ضبط 13 ألف قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    الأحد.. عمر الشناوي ضيف عمرو الليثي في "واحد من الناس"    محكمة العدل الدولية تستمع لطلب جنوب إفريقيا بوقف هجوم إسرائيل على رفح    كولر يحاضر لاعبى الأهلي قبل خوض المران الأول فى تونس    نتيجة الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني 2024 عبر بوابة التعليم الأساسي (الموعد والرابط المباشر)    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13166 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة ويتفقدان مستشفى بني محمديات بأبنوب    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    عبد العال: إمام عاشور وزيزو ليس لهما تأثير مع منتخب مصر    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كائنات الحزن اليلية
نشر في صباح الخير يوم 25 - 12 - 2012


عبدالمجيد النوبى
تعذبنى الفراشات حين تحترق
وتحيرنى.. حين تواصل الاحتراق
وينكسر القلب على مفارق الطرق، حين يصير الضوء موتا، والعتمة خلاصا.
لماذا تظل الفراشات ترف على حافة الوهج العشق الأبدى، من أول العمر، حتى تسقط على حافة المدى، بقايا أحلام قديمة؟! لماذا يصير العشق موتا؟! وتصير المرايا مقبرة؟!

وأنا العاشق الميت، الضائع عبر المرايا، المحترق بالنور والظلمة، الصارخ وجدا.. السائر خلف نعشى.

شعر بألم حاد فى رقبته، حرك رأسه بصعوبة، حاول أن يخترق حدود العتمة التى خبأت الصحراء فى جوفها دون جدوى، فاستراح على حافة الليل، ترى.. كم مر عليه وهو جالس فوق تلك التبة الترابية، التى تبدو فى ليل الصحراء الغامض الساحر، كائنا خرافيا يقف منتصبا على حافة القناة، ويستند بذراعه على كوبرى الفردان، كم مر عليه وهو يراقب ذلك التليفون الميدانى الكبير، الذى يصدر صوتا أشبه بالحشرجة، وينظر بين الحين والآخر إلى الصحراء، عبر تليسكوب البندقية الموضوعة فوق شكاير الرمل، البندقية التى ظل يحلم بها، منذ أن رأها فى خندق صغير على حافة القناة، أيام حرب الاستنزاف، يومها.. قال له القناص الواقف على حد الموت يغنى للحياة.. يا صاحبى.. هناك دائما طلقة خائنة تختبئ فى العتمة.. فى انتظار الأرواح الطليقة واختفى فى ظلمة الملجأ، ثم مات على بعد كيلو مترات من تلك التبة اللعينة، كأن قطار الموت يبدأ من ذلك الملجأ الصغير فى مدينة السويس، وينتهى عند تلك التبة التى تغسل ساقيها فى الماء، زادت آلام الرقبة بشكل حاد، استند على حافة الملجأ الحديدى، سقط ضوء لمبة الجاز الموضوعة فوق الصناديق الخشبية على وجهه، فبدا كنقش فرعونى غامض، فوق جدار معبد قديم.

كم مر عليه وهو جالس فوق تلك التبة اللعينة المعزولة الواقفة كآلهة الأساطير القديمة، بين صحراء تمتد حتى مدن القناة، وتستلقى بجسدها الواهن تحت ظل الأشجار العالية، لتستريح من قسوة القصف الليلى، والموت الذى يحط فوقها ساعة الظهيرة، وصحراء تمتد حتى ساحل البحر، وتحاول أن ترفع عن جسدها الموشوم بالموت والرعب، بقايا العربات والمدرعات المحترقة، التى تغوص فى الرمل كأنها تخبئ عارها كم مر عليه وهو جالس فى تلك النقطة.. لا شىء يأتى.. ولا شىء يمضى.. فى الصباح.. يهبط من فوق التبة عبر المدق الضيق المتعرج، يمضي إلى حافة الماء، يجمع علب السجائر الفارغة، بطاقات الجنود الجلدية الرخيصة المحترقة، وأحيانا.. صورة طفلة صغيرة ذات جدائل بضفيرة حمراء، تختبئ بين تضاريس الأرض الناتئة، بقايا رسالة مكتوبة بخط ردىء متعرج، إلى ولدنا العريف فتحى عبدالباسط، يجلس على حافة الماء، ويعيد ترتيب بقايا الأشياء التى وقفت ذات يوم فى نفس المكان، تغنى للحياة، تحت وطأة القصف اليومى، وتحاول ألا تموت لحظة انفجار القنبلة، يعيد تلك الكائنات التى كانت تغزل فى عتمة الليل، تفاصيل النهار، ويمنحها أشياءها القديمة.

وفى الليل.. ينظر عبر تليسكوب البندقية إلى القمر، يحاول أن يحدد ملامح تلك الأشكال الغامضة، أن يحول تلك الظلال الرمادية على وجه القمر، إلى وجوه الأحبة التى خطفتها حدأة الأيام المرة، كما كانوا يفعلون زمان فى الوسعاية، حيث كانوا يرون بخيالهم، وهم جالسون فوق الكتلة الأسمنتية، بجوار كنيسة القس عمانوئيل، وجه البنت صفية، التى جرت ذات ليلة فى الوسعاية كرة من اللهب، وهى تصرخ صرخة مروعة، أيقظت الوسعاية كلها، وظل عفريتها يلبد للعيال فى العتمة فى ليالى الشتاء، يرون نهود النسوة اللائى يقفن فى النوافذ والشرفات، وهى تنط من فتحات الجلاليب الضيقة كأقراص العجين، وأرداف الولية نعيمة الكبيرة المستديرة، مما جعل العيال يطلقون عليها نعيمة حنطور، ويضحكون ويصرخون فى نشوة عارمة، حتى يصرخ فيهم عم شتا البقال، بعد أن كف بصره، وأصبح دائم الصراخ والسباب.

مش عارفين ننام يا أولاد الكلب.

لكن يحيى عجز عبر تلك الليالى التى تعرج فوق الرمل، أن يرى وجه البنت حنان، أو البنت سهير، الوجه الوحيد الذى ظل يراه لعدة ليال، وبأدق التفاصيل، حتى تلك الشامة الصغيرة على خده الأيسر، التى تنبت فيها شعرة بيضاء طويلة، يرفض دائما أن ينزعها، ويسميها شعرة الملائكة، كان وجه عبدالمجيد النوبى، الذى يسكن على أطراف عزبة أبوراضى قريبا من طريق المنصورة، وبعد أن حصل على دبلوم التجارة، كان يأتى دائما فى ساعات الظهيرة، حين يصير الأسفلت عجينة سوداء تشوى الجلد، يدخل الوسعاية بجسده الفارع النحيل كعود القصب ، ويلعب معهم الكرة حافيا، حتى أطلق عليه العيال عبدالمجيد رجل الحصان، وفى بعض الليالى الصيفية، يجلس معهم فوق النجيلة المبللة، فى جناين شارع شكرى القوتلى، ينظر إلى حقول الذرة الممتدة حتى الطريق الأسفلتى الجديد، ويغنى أغاني نوبية حزينة، ولا يعرف العيال معناها، لكنها.. كانت تبنى عشا فوق قلوبهم وتستريح، ثم تحلق فى المدى، طليقة كالريح، حتى بدايات الصباح التى تأتى دائما عجلى، فينهض واقفا ويمضى وسط الحقول الواسعة، وهو مازال يغنى، ذات مرة سأله الولد حمودة، عن معنى تلك الأغانى فقال إنها تعويذة ترد الروح والحبيبة والوطن، قال الولد رفعت وهو يلعق شفته العليا بلسانه:

بتحب يا عبدالمجيد؟

أشاح بوجهه بعيدا، طارد بعينه الواسعتين الكحيلتين كعيون المهر الجامح، فراشة صغيرة تحاول التحليق وحيدة، فى مساحة الضوء الأصفر الشاحب، وبدأ يغنى مرة أخرى، بصوت جميل مخنوق بالدموع والألم.

عندما كان العيال يقفون بجوار مدرسة الصنايع، فى ذلك النهار الذى خلع عمامته البيضاء، ووضعها فى بداية الوسعاية، ثم استراح بعيدا، وبينما الولد حمودة الأعرج يطارد الخادمات الصغيرات، فى مداخل البيوت فيضحكن وينكسرن على بداية الدرجات الرخامية أحيانا، وأحيان أخرى يقذفنه بالحجارة، ويصرخن بأصوات رفيعة حادة:

يا أعرج يا ابن الكلب.

يتراجع إلى سور مدرسة الصنايع، يستند عليه لحظة وهو يلهث، يفرد ساقه العرجاء وهو يشعر بالألم، ثم يعاود المطاردة، والانقضاض على الخادمات فى مداخل البيوت، فى ذلك النهار.. دخل عبدالمجيد الوسعاية مرتديا قميصا أبيض وبنطلونا أزرق واسعا، وحذاء لامعا ضيقا، تكاد رجل الحصان المعجونة بالأسفلت، أن تفر منه إلى العراء، وعلى كتفه حقيبة جلدية صغيرة، قال وهو يبتسم بسعادة إنه ذاهب إلى القاهرة، ليعمل فى مكتب محام كبير فى وسط البلد، بعد أن توسط له أحد بلدياته، وأنه يفكر فى العودة إلى الدراسة، والالتحاق بكلية الحقوق، ويلبس الروب حلم أبيه الضائع وعندما يتخرج فسوف يدافع عن الولد عزت الحرامى، ليس لأنه يحبه، فهو يكرهه عمى، ويتمنى فى كل مرة يراه فيها هائما على أطراف المدينة أن يقبض عليه البوليس، لكن من أجل والدته الست ماتيلدا، التى أغلقت على نفسها الأبواب والشرفات، حتى لا تطل الفضيحة عارية على الوسعاية كلها، وترى الرءوس المختبئة خلف شيش النوافذ أم عزت الحرامى.. صمت قليلا.. ثم قال والدموع تكاد تفر من عينيه:

أمانة يا عيال.. تسألوا على أبويا العاجز.

ومضى عبر الوسعاية وهو يعرج قليلا بسبب ذلك الحذاء الذى لم يلبسه منذ سنوات حتى ضاق عليه، قبل أن يختفى فى بداية شارع محب، رفع يده السمراء النحيلة كعود الحطب عاليا، دون أن يلتفت إلى الوراء، اختفى مثل كل الوجوه التى اختفت من الوسعاية، ومثل حكايات ليالى الشتاء الباردة، عندما تخرج من تحت الأغطية الثقيلة، وترحل فى بدايات الصيف الخانق إلى فضاء ضائع بين وقتين، ومثلما تفر التفاصيل الصغيرة من حدود الذاكرة، إلى حدود المدن التى كف بصرها، فر عبدالمجيد من الوسعاية، لم يسأل أحد عن أبيه العاجز، ولم يرسل خطابا بعنوانه فى القاهرة كما وعد.. والأغانى النوبية خبأتها الليالى فى عباءتها، ركبت مهرة الوقت.. وضاعت فى المدى، حتى كتابات العيال فوق جدران مدرسة الصنايع، وفوق النجيلة المبللة دوما فى شارع شكرى القوتلى، حملت أحرفها الريح وطارت بعيدا، لم يعد هناك غير بقايا أحرف، تسقط تحت وطأة المطر، فوق الأرصفة التى لا تعرف الأبجدية، وبقايا حكايات حاولت أن تفك ضفائرها، وتحط فوق قمة أشجار البانسيانا فى شارع محب، وتقصف أزهارها الحمراء، التى يأكلها العيال وهم يتقافزون فوق السياج الحديدى لمدرسة الصنايع، ثم تتمدد فى الظهيرة تحت ظل الأشجار فى مستشفى الرمد، وتستحم برائحة الليمون والجوافة، لكن صهيل الأيام الجامحة - التى لا تعرف الوراء - تردها طفلة صغيرة تتعلم الحبو على حافة الدنيا، لم يعد العيال يلعبون الكرة فى الوسعاية، التى اختفت وراء سور عال من الطوب الأحمر، وبوابة خشبية كبيرة، فوقها قفل حديدى صدئ - اختفى ذات ليلة، وفى الليالى التى تلتها.. اختفت البوابة نفسها - ولم يعد العيال يجلسون فوق المربع الأسمنتى، بجوار كنيسة القس عمانوئيل، فى ليالى الصيف الحارة يعاكسون سائقى الحناطير والعربات الكارو، ثم يختبئون فى مدخل الكنيسة المظلم، أو يغنون بصوت عال الأغانى الشعبية البذيئة، حتى تنفتح الشرفات والنوافذ، ويظهر الرجال بالجلاليب والطواقى القماش، أو السراويل القطنية الطويلة، ويسبونهن، ويلعنون اليوم الأسود الذى صارت فيه السفالة وقلة الأدب طقسا يوميا عاديا، بينما تضحك النسوة بشبق، وهن يخلعن سراويلهن، ويصعدن فوق الأسرة النحاسية اختفى كل شىء.. لم تعد هناك غير مصابيح الأعمدة المكسورة أو المطفأة، والأرصفة الترابية الضيقة النائمة فى العتمة، تنتظر العابرين سدى.∎


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.