تواجد تاريخي لمصر في الجنوب.. والنفوذ لأوغندا وكينيا الحلقة "6" بينما بدأ العد التنازلي لاستفتاء تقرير مصير جنوب السودان بانتهاء فترة تسجيل أسماء الجنوبيين في الاستفتاء المقرر في 9 يناير .. رصدت "روزاليوسف" في جولة بالخرطوم " العاصمة السودانية " وفي مدينة جوبا " عاصمة الجنوب " اجواء من التوتر والحذر بين الجانبين خوفا من ردود افعال غير محسوبة في حالة إذا ما انتهي الاستفتاء للانفصال . وبات مصير السودان ومستقبله بعد حدث 9 يناير الفاصل في تاريخه قضية تفرض نفسها علي كل سوداني بما في ذلك ان هناك تحركات جديدة من اطراف مختلفة مثل الحركات المتمردة في دارفور في طريقها للسير علي نهج الحركة الشعبية في طلب تقرير المصير ايضا .. وتنقل " روزاليوسف " في سلسلة حلقات من العاصمتين الجنوبية والشمالية الواقع علي الارض وتداعياته بما فيها المصالح المصرية . تزامن وصولنا إلي جوبا عاصمة جنوب السودان مع احتفالية دعت لها القنصلية المصرية هناك لتقديم مساعدات لوجستية إلي حكومة الجنوب مقدمة من صندوق الدعم الفني التابع لوزارة الخارجية لاغاثة ضحايا السيول في ولاية بحر الغزال.. وسلم السفير مؤيد فتح الله الضلعي القنصل المصري في الجنوب وزير الشئون الإنسانية جيمس كوك 248 خيمة كدفعة ثانية من معونات ضحايا السيول. كانت الاحتفالية مدخًلا حقيقيًا للتعرف علي التواجد المصري في جوبا وحجمه بالمقارنة بالخرطوم في الشمال وتأثيره في خدمة المصالح المصرية والسودانية المشتركة.. حيث أكد وزير الشئون الإنسانية أن مصر الدولة الوحيدة التي قدمت إعانات لضحايا السيول وأن ذلك يضاف إلي دعمها التاريخي لتنمية الجنوب. وألقي السفير الضلعي الضوء علي مجموعة من المساعدات التي تقدمها مصر للجنوب في الفترة الأخيرة بجانب معونات الادوية والخيام لضحايا السيول مثل معرض المنتجات المصرية الأول في جوبا الذي شاركت فيه 30 شركة من القطاعين العام والخاص وانتهي الأسبوع الحالي، فضلا عن دورة تدريبية لإعلاميين بالجنوب في القاهرة. كان من الصعب تقديم أي معونات تنموية للجنوبيين قبل توقيع اتفاقية السلام في 2005مع الخرطوم ذلك أن هذه المنطقة في السودان شهدت حربا اهلية استمرت لنحو 50 عاما "علي فترات منفصلة " بجانب تأثير توترات العلاقة بين القاهرة وثورة الانقاذ الأولي في بداية التسعينيات.. لكن يحتسب الجنوبيون لمصر أنها من أوائل الدول التي سارعت في إعمار وتنمية الجنوب بعد اتفاقية السلام وبدأ ذلك في أكثر من مشهد تاريخي كالزيارة التي قام بها الرئيس حسني مبارك في العاشر من نوفمبر 2008 إلي جوبا كأول رئيس دولة يزور جنوب السودان وقال وليم دينج دينج رئيس لجنة عدم التسليح في الجنوب أن تلك الزيارة عكست حرص مصر علي خيار الوحدة من البداية دعما للسلام في السودان. ولا ينسي أهل الجنوب إلي الآن أن مصر كانت الدولة الأولي التي بادرت بفتح قنصلية في جوبا.. تتولي تسهيل اجراءات الهجرة للجنوبيين إلي القاهرة ومتابعة المشاريع المصرية هناك.. ويأتي مبني القنصلية علي مساحة 10 آلاف متر في منطقة طريق الوزارات وسط المدينة ويعمل بها نحو 6 أفراد. وتدفقت أشكال المعونات والمشاريع التنموية بالجنوب باعتباره الأولي بالدعم بعد الحرب، مثل العيادة المصرية التي تستقبل مئات الحالات يوميًا وفي مجال التعليم تم إنشاء ثلاث مدارس للتعليم الصناعي ومدرستين للتعليم الزراعي لتدريب الجنوبيين علي وسائل الزراعة السليمة وفرع جامعة الاسكندرية، بجانب مشاريع الري المصري العريقة ومحطات توليد الكهرباء في عدد من مدن الجنوب. هذا بجانب خط مصر للطيران المنتظم الذي بدأ مؤخرا من القاهرة إلي جوبا مباشرة رحلتين في الأسبوع والذي سهل علي الكثيرين من أهل الجنوب للانتقال مباشرة للقاهرة بدلا من الذهاب الي الخرطوم أولا. جذور تاريخية للتواجد عبر موقع مقر القنصلية المصرية في منطقة الملكية بجوبا عن الامتداد التاريخي للتواجد المصري في جنوب السودان.. ففي الملكية كان المقر الرئيسي للحكم العثماني وقت أن كانت السودان ومصر دولة واحدة وخلال تلك الحقبة شهد الجنوب جوانب تنموية متعددة علي ايدي المصريين بدليل أنه لازال يحتفظ بالاسماء الملكية حتي الآن. وتبدو الجذور التاريخية للتواجد في مدرسة الملكية وهي اقدم وأكبر مدرسة بالجنوب انشأها المصريون أيام الحكم الملكي وأيضا المسجد العتيق وهو مسجد انشأه الملك فاروق بجانب سوق الملكية إحدي أكبر الاسواق التي يعتمد عليها الجنوب ومعظم تجاره من الشمال وكذلك نادي الملكية وهو من أكبر اندية الجنوب الرياضية. وفي تلك المنطقة يأتي أيضا مقر بعثة الري المصري في جوبا.. وتمثل الملكية مركزا خدميا مهما للجنوبيين يعتمدون فيه علي تسيير امور حياتهم اليومية خاصة وأنه يسكنه أهل الجنوب الأصليين. كان لافتا في جوبا ارتباط أهل الجنوب بالثقافة المصرية والفن المصري وظهر ذلك في حرص الاسر والشباب علي الاستماع إلي الأغاني المصرية لمعظم المطربين بجانب مشاهدة الأفلام المصرية أيضا من خلال الفضائيات في البيوت. كندي - شاب جنوبي يعمل في وزارة الري.. قال انهم يستمتعون كثيرا بالفن المصري فهناك افلام يفضلونها مثل «أبوعلي».. ويحفظون اغاني معظم المطربين مثل عمرو دياب وشرين وحمادة هلال. يذكر ان الجالية المصرية في جوبا - وهي محدودة العدد بالنسبة لنظيرتها في الخرطوم وتضم مهندسي بعثة الري ومندوبي مصر للطيران بجانب موظفي القنصلية- عادة ما تجتمع مساء كل ليلة في ساحة الفندق اللبناني - وهو الفندق العربي الوحيد هناك - لمتابعة أحوالهم والتحديات التي قد تواجههم. مزاحمة الوجود المصري رغم الاهتمام المصري تقديم مساعدات ومعونات في مختلف المجالات لتنمية الجنوب بعد انتهاء الحرب إلا أن هناك تساؤلات حول تأثير ذلك التواجد ومردود ذلك الجهد علي المصالح المصرية والاستراتيجية مع الجنوب خاصة إذا ما انتهت نتيجة الاستفتاء إلي الانفصال ،ويقارن الكثير بين حجم التواجد المصري وتحركات دول غربية وخارجية لتدعيم تواجدها في تلك المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في افريقيا. وكان لافتا في هذا السياق التأثير الأوغندي والكيني القوي علي الحياة في الجنوب حيث يتواجدون في التعليم ويسيطرون علي الأسواق بمختلف اشكالها، هذا بجانب الاستثمارات الامريكية والصينية والإسرائيلية في جوبا والتي تسعي للاستفادة من موجة الغلاء العالية هناك حيث يوجد فندق شالوم وهو من أبرز الفنادق السياحية هناك والشركات الصينية لاستخراج البترول.. في حين لا توجد أي استثمارات مصرية حقيقية هناك أو حتي عربية باستثناء فندق سحارة اللبناني. كما أن حجم التجارة المصرية في الجنوب ضعيفة ولم يراود السوق الجنوبي أذهان المنتجات المصرية حتي الآن رغم ارتفاع الأسعار هناك باضعاف معدلاتها الطبيعية.. حيث يعتمد الجنوبيون علي المنتجات الاوغندية والكينية بجانب تجار الشمال من الخرطوم. " نحن نعلم ان المساعدات المصرية كثيرة.. ويثق فيها اهل الجنوب.. لكن مصر تقدمها من أجل مصالحها" هكذا عبر محيي إبراهيم - شاب جنوبي عن رؤيتهم في جوبا للمساعدات المصرية وقال انهم يعلمون أن مصر تسعي بكل جهد في الحفاظ علي حصتها من مياه النيل وهذا حقها في ظل التواجد الدولي المختلف لديهم.
مهنة يقبل عليها الشباب المصري في السودان مندوب مبيعات.. بالتقسيط اجتذبت حالة الرواج التي تشهدها أسواق السودان كثيراً من المستمثرين والتجار خاصة من مصر ذلك أن هناك ارتفاعا في الأسعار عن القاهرة وإقبالا متزايدا علي المنتجات بشتي أنواعها باعتبار أنها دولة تحبو في طريق التنمية ويسعي أبناؤها لتحسين حياتهم المعيشية بعد ارتفاع معدلات البترول المكتشفة. من اكثر المهن التي يقبل عليه الشباب المصري في السودان هي مندوب المبيعات حيث يتوافد العشرات خاصة من محفظات الصعيد علي الخرطوم لبيع الأجهزة الكهربائية والمنزلية في الأسواق وأماكن التجمعات أمام المؤسسات الحكومية فضلا عن البيوت . وقال أحمد الفيومي شاب مصري يتاجر في الجهزة الكهربائية بالخرطوم.. نقوم بشحن اجهزة كهربائية ومنزلية من الجيزة ونرسلها للسودان بالطريق البري عن طريق حلايب ثم إلي الخرطوم.. وبعدها يسافرون كمجموعة شباب لتوزيع هذه الاجهزة والمنتجات علي المنازل. وكان لافتا انه قال انهم يبيعون تلك السلع بالتقسيط حيث يقومون بالمرور علي البيوت شهريا لتحصيل الأقساط المتأخرة عليهم.. وأضاف انهم في كل مرة يدرسون حالة السوق ويبحثون عن احتياجاته حتي يأتون بتلك البضائع من القاهرة.. وارجع عدم اقبالهم علي الجنوب نظرا لارتفاع تكاليف الشحن والضرائب والجمارك علي البضائع التي تنقل إلي الجنوب. اللافت ايضا انه رغم ان جنوب السودان تعد ثاني أكثر المناطق غلاءً في الأسعار بافريقيا بعد انجولا إلا أنها لم تجتذب التجار أو الشركات المصرية لعرض منتجاتهم.. ولم تراود اذهان المستثمرين في مشاريع المقاولات والعقارات التي تنتشر بها في الفترة الأخيرة.. وعليه ينتشر الشباب المصري في الشمال عن الجنوب باعتبار ان الأجواء في الخرطوم قريبة من القاهرة . وفي نفس السياق هناك كثير من شركات المقاولات المصرية التي انتشرت في الخرطوم في ظل الاتجاه إلي الأعمار في السودان حتي أن طابع الابراج السكنية المصرية بدأ ينتشر في الخرطوم في هذه الفترة. واعتبر المهندس بلال مجدي أحد العاملين في شركات المقاولات منذ 4 سنوات أن هناك رواجا غير مسبوق في اسواق العقارات نظرا لكثرة البعثات الاجنبية في السودان.. وقال إنهم يقومون بأعمال البناء والتشطيب كاملة وانجزوا كثيراً من المشاريع في الخرطوم. وأضاف أن هناك كثيراً من العمالة المصرية التي يعتمدون عليها بجانب العمالة السودانية.
ثلاثة قناديل في ظلام جوبا الظلام غطاء يكسو أنحاء جوبا.. انقطعت الكهرباء عن المدينة لعطل فني بسيط في المحطة الرئيسية ورفض الموظفون إصلاحه بسبب تأخر حضور زملائهم في الفترة الليلية.. احساس الترقب والحذر يراود المارة الذين لا يجدون دليلا في طريقهم سوي أضواء القمر وأشعة بعض سيارات "الهامر" التي تسير في الشوارع .. معظم الأهالي التزموا بيوتهم مبكرا خوفا من أي اعتداء من اللصوص المنتشرين في المدينة أو انفلات " السكاري». تلك كانت الأجواء مع أول ليلة في عاصمة جنوب السودان رغم صخب الأحداث والتفاعلات المصاحبة لإجراءات استفتاء تقرير المصير.. الانارة والكهرباء لاتوجد إلا في منازل المسئولين في الحكومة والفنادق التي تعتمد علي مولدات خاصة. ووسط هذه الحالة ظهرت العيادة المصرية وكأنها قنديل مضيء وسط العاصمة جوبا.. جنوبيون يترددون عليها واثقين في خدماتها.. واطبائها يشخصون ويعالجون من انهكتهم حياة الحروب.. وعكست صورة العيادة وضعها الحقيقي كأحد اهم الخدمات المصرية المقدمة للجنوب ذلك أنها الأكثر انتشارا وتأثيرا وسط الجنوبيين تستقبل العيادة حوالي 300 حالة يوميا من جميع ولايات الجنوب يجري الكشف عليهم مجانا وتصرف الأدوية بأسعار رمزية.. وكانت هناك صعوبة أمام الأطباء المصريين في التعامل أو التعرف علي حالات المرضي بسبب لغتهم القبلية ألا أنهم اتقنوا تلك اللغة بالممارسة. ويروي أحد الجنوبيين أنهم يثقون في تشخيص وعلاج العيادة المصرية عن مستشفي جوبا التعليمي وهو المستشفي الحكومي الوحيد هناك وقال إن الخبرة المصرية وتعاملات اطباء تؤثر كثيرا فيهم، مشيرا إلي أن ما يميز العيادة انها تعمل بفترات متواصلة علي عكس المستشفي الحكومي الذي اضرب اطباؤه ورفضوا علاج المرضي منذ شهرين لعدم صرف مرتباتهم. ويأتي في هذا الإطار أيضا الخدمة الجديدة التي قدمتها مصر للطيران بفتح خطوط جوية مباشرة من القاهرة إلي جوبا دون التوقف في الخرطوم وهي أحدث الخدمات التي لاقت استحسانا من الجنوبيين لأنها سهلت عليهم كثيرًا من مشقة السفر للخارج بعد أن كانت الخرطوم محطة الذهاب والاياب الأساسية لهم. وقال سامر عزيز مسئول مصر للطيران في جوبا إن هناك رحلتين اسبوعيا لجوبا من القاهرة يومي الأربعاء والجمعة مشيرا إلي أن الإقبال زاد بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة علي الطيران المصري مع قرب الاستفتاء. يضاف ذلك الي بعثة الري المصري وهي من أقدم المشاريع والبعثات في الجنوب شأنها في ذلك شأن دول حوض النيل ويأتي مقر البعثة الرسمية في الجنوب بمدينة ملكال باعتبارها نقطة تجمع أنهار الجنوب، لكن يوجد أيضا مقر للبعثة في جوبا وهناك كثير من المشاريع المائية المشتركة مع وزارة الري. وتأتي أهمية البعثة في أن أفرادها علي علاقات جيدة بمسئولي وأهل الجنوب وبالتالي فإن هناك تأثيراً كبيراً في العلاقات الشعبية مع تلك المناطق.