انتهت الانتخابات العامة في بورما في السابع من نوفمبر الماضي، من بعد عمليات تأجيل وتسويف طويلة، فحقق فيها «حزب اتحاد التضامن والتنمية» المدعوم من الطغمة العسكرية الحاكمة بقيادة الجنرال «تان شوي» انتصارًا ساحقًا عبر وسائل التزوير والضغط علي الناخبين وتخويفهم بفقدان وظائفهم إن هم صوتوا لغير صالح الحزب المذكور، وذلك رغم كل المناشدات الدولية والأممية بضرورة التزام النزاهة والشفافية، ومنح البورميين فسحة لاختيار ممثليهم بحرية. وقد تمثل انتصار حزب «اتحاد التضامن والتنمية» ومن ورائه العسكر بسيطرتهم علي 330 مقعدًا من مقاعد مجلس الشعب، إضافة إلي نسبة ال25% المخصصة، بحسب القوانين السائدة، لرموز المؤسسة العسكرية. وكانت هذه النتائج المزرية متوقعة، ليس فقط بسبب سيطرة العسكر علي مفاصل الحياة في بورما، وإنما أيضًا بسبب دعوة «الرابطة الوطنية للديمقراطية» بقيادة السيدة «أونغ سان سوشي»، والتي كانت قد فازت فوزًا ساحقًا في انتخابات عام 1990، قبل أن يبطل العسكر نتائجها في العام ذاته، لأنصارها بمقاطعة الانتخابات بحجة عدم شفافيتها من جهة، وضغوط السلطة العسكرية علي أكثر من 800 ألف ناخب من موظفيها الرسميين وجنودها للاقتراع لمرشحيها دون غيرهم. هذا فضلاً عن النزاعات الأهلية الجارية منذ عقود في أرجاء واسعة من البلاد بسبب التمييز العرقي، تلك النزاعات التي تتجسد بأفضل صورها في الحرب التي تخوضها أكبر الأقليات الإثنية حجما والمعروفة باسم «كارين» والتي ظلت ميليشياتها تقاتل الحكومة المركزية في رانغون طيلة العقود الستة الماضية من أجل الانفصال في كيان مستقل. ومن الأسباب الأخري التي دفعت القوي الديمقراطية المناهضة لديكتاتورية العسكر باستثناء القليل منها لمقاطعة انتخابات نوفمبر، الدستور الذي أقرته الحكومة قبل نحو عامين، والذي انتقده المجتمع الدولي بقوة بسبب منحه صلاحيات واسعة للعسكر، بل نصه صراحة علي أن يكون زعيم البلاد من مؤسسة الجيش ، مع منحه حق إلغاء البرلمان إذا ما شعر بأن الأخير يهدد أمن البلاد واستقراره. بعيد انتهاء الانتخابات المذكورة، وتحديدًا في 13 نوفمبر المنصرم، عمد عسكر بورما إلي إطلاق سراح زعيمة المعارضة وابنة بطل الاستقلال والفائزة بجائزة نوبل للسلام السيدة «أونغ سان سوشي» من معتقلها المنزلي الذي قضت فيه 15 عاما من أصل 21 عاما بموجب حكم ظالم أصدرته إحدي المحاكمات. ولئن أثارت هذه الخطوة فرحة عارمة في الداخل والخارج بسبب ما تمثله هذه السيدة من أمل ورباطة جأش، فإنه سرعان ما تبين أن الخطوة لم تكن بدواعي إشاعة الديمقراطية أو المصالحة الوطنية، أو إخراج البلاد من مآزقها المتراكمة، وإنما فقط من أجل تحسين الصورة البائسة للمؤسسة العسكرية الحاكمة أمام الرأي العام العالمي. إن إطالة أمد بقاء الطغمة العسكرية البورمية في السلطة، وبالتالي حرمان البورميين من تنفس رياح الحرية والعدالة، بل حرمان بلادهم من أن تتبوأ المكانة اللائقة بها بين شريكاتها في منظومة «آسيان»، خصوصا أن لها شبه تجربة ديمقراطية ناجحة، ونعني بذلك التجربة التي تأسست مباشرة بعد استقلالها عن بريطانيا في عام 1947، حينما أجريت أول انتخابات تعددية حرة، وتشكلت أول حكومة وطنية مدنية بقيادة الراحل «أونو»، الذي سرعان مابرز علي الساحة الدولية كأحد مؤسسي حركة عدم الانحياز، بل سطع نجمه في مؤتمر باندونج في عام 1955 إلي جانب عبدالناصر ونهرو وسوكارنو، قبل أن يقوم جنرال أحمق غبي يدعي «ني وين» بانقلاب عسكري، ويؤسس نظاما اشتراكيا مشوها، كنتيجة لهوسه ومحاولاته الفاشلة لدمج النظريات الماركسية مع التعاليم البوذية. نقول إن إطالة أمد بقاء العسكر البورمي في السلطة تتحملها دولتان آسيويتان كبيرتان هما الصين والهند.. وقد يستغرب القارئ كيف لدولة ديمقراطية كبري كالهند أن تصمت أو تمد عكسر بورما بأسباب الحياة وإمكانيات البقاء في السلطة؟ غير أن الاستغراب يزول حينما نعلم أن الهند لم تفعل ما فعلته إلا لأن منافستها الكبري، ونعني بها الصين، سبقتها إلي ذلك عبر تعزيز نفوذها في هذا البلد ذي الموقع الاستراتيجي الحساس لكليهما بسبب قربه الجغرافي منهما، ناهيك عن إطلالة سواحله علي مياه المحيط الهندي التي تمر بها التجارتان الصينية والهندية، وتسير فوقها الناقلات الضخمة الحاملة لوارداتها النفطية من دول الخليج العربية وإيران. إن أهمية موقع بورما الاستراتيجي لهذين القطبين الآسيويين المتنافسين تشبه أهمية موقع سريلانكا بالنسبة إليهما، بل تزيد. لكن علي حين حسمت بكين الموقف في الأخيرة لصالحها في السنة الماضية عبر الإمدادات العسكرية الضخمة لحكومة كولومبو، وبما مكن جيش الأخيرة من القضاء قضاءً مبرما علي حركة نمور التاميل الانفصالية من بعد حرب ضروس استغرقت نحو ربع قرن. تلك الإمدادات التي ردت عليها كولومبو بفتح أبوابها علي مصاريعها أمام الاستثمارات الصينية، والترحيب بتواجد الخبراء والفنيين الصينيين علي أراضيها للمساعدة في انجاز العديد من مشاريع البني التحتية، ولاسيما الموانئ والمطارات التي قد يستخدمها الصينيون لاحقا في إقامة قواعد أو الحصول علي تسهيلات عسكرية لهم لمراقبة تحركات منافسيهم الهنود علي نحو ما فصلناه في مقال سابق بعنوان «ماذا يجري في سريلانكا؟ «يمكن الاطلاع عليه عبر محرك جوجل للبحث» فإن الصراع الصيني الهندي علي بورما لم يحسم بعد، ولا يزال مستمرا علي حساب حرية الشعب البورمي وطموحاته في الانعتاق من الديكتاتورية. وفي سياق الحديث عن القوي المتصارعة علي بورما، لابد من الإشارة أيضًا إلي تايلاند المجاورة جغرافيا لهذه البلاد سيئة الحظ، خصوصا في ظل ما يقال عن ارتباط عسكر تايلاند بعسكر بورما بعلاقات مصالح متبادلة. علي أن هناك بعض المؤشرات التي أفصحت عنها تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة، والتي أفادت بأن بكين باتت متذمرة ليس فقط مما يقال حول دورها في بورما، وإنما أيضا بسبب فشل حلفائها من جنرالات بورما في إدارة البلاد بطريقة سليمة. والطريقة السليمة في رأي صناع القرار في بكين هي تحقيق قدر من الرفاهية الاقتصادية للبورميين من أجل امتصاص غضبهم وإسكات مطالبهم في التغيير السياسي، أي علي النحو المتبع في الصين وفيتنام اللتين يحكمهما حزبان شيوعيان، لكنهما لا يمانعان من تطبيق سياسات السوق الرأسمالية. ومما ورد في تسريبات «ويكيليكس» أن الصينيين أعربوا عن مخاوفهم من انفلات الأوضاع في بورما في أعقاب الانتفاضة الزعفرانية لكهنة المعابد البوذية وطلابهم في عام 2007، وأرسلوا إشارات في حينها إلي زعماء رانجون بضرورة فتح حوار وطني مع رموز «الرابطة» الوطنية للديمقراطية». وفي التسريبات المذكورة أيضًا أن بكين أصيبت بالانزعاج من الأنباء التي وصلتها حول وجود علاقات من وراء ظهرها ما بين رانجون وبيونج يانج لتحويل بورما إلي قوة نووية في منطقة جنوب شرق آسيا ذات الأهمية القصوي لاقتصاد الصين ومصالحها الاستراتيجية، ناهيك عن الأنباء التي تم تداولها حول محاولة ديكتاتورية بورما في استغلال نحو بليون دولار من المساعدات النقدية الصينية للاستحواذ علي حصة معتبرة في فريق «مانشستر يونايتد» الإنجليزي لكرة القدم، إكراما لحفيده المولع بجنون بهذا الفريق. باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين [email protected]