منعا للفوضي في معرفة مراد الله منا من خلال نصوصه الدينية قام الفقهاء قديما بوضع الأسس والأصول التي من خلالها يمكن الوصول إلي حقيقة مدلول النص الديني والمراد منه، ولكن قبل ذلك قاموا بوضع بعض الأسس التي من خلالها يمكن معرفة وتحديد ما هو النص الديني أو تحديد التشريع الديني، وفي أثناء ذلك خلط الفقهاء والأصوليون بين ما هو نص ديني ما هو فهم للنص الديني، فنتج عن ذلك وضع بعض أو كثير من المصادر غير النصوصية في مصاف النص الديني وعدوها مصادر وأدلة شرعية تتساوي مع النص الديني ذاته، وسوف أقوم بتفكيك ذلك وتحليله لمعرفة الدليل الشرعي الحقيقي الذي هو التشريع الإلهي الواجب الاتباع من غيره من الأدلة والمصادر التي ليست بنص ولا تشريع إلهي. قام الأصوليون بتعريف الدليل الشرعي (النص الديني الواجب الاتباع) فقالوا: (الدليل معناه في اللغة العربية: الهادي إلي أي شيء حسي أو معنوي، خير أو شر، وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه علي حكم شرعي عملي علي سبيل القطع أو الظن. وأدلة الأحكام،وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد). وقد أخطأ بعض الأصوليين في اعتبارهم أن أدلة الأحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد، وبفحص حقيقة دلالة هذه الألفاظ نجد أن كل عبارة منها لها دلالة تختلف تماما عن دلالة العبارة الأخري، فمثلا أدلة الأحكام تعني النص الديني ذاته الذي يدل المكلف علي مراد الله منه، فأما أصول الأحكام فهي القواعد الفكرية (المنطقية) التي يتم تأسيسها فكريا ابتداء للانطلاق منها لمعرفة حقيقة النص الديني ذاته، ومن ثم معرفة الدلالة الحقيقة للنص الديني ومراد الشارع فيه، أما مصادر التشريع فهي من أين صدرت هذه التشريعات وتلك الأحكام، هل صدرت من الله؟، أم صدرت من الرسول؟، أم صدرت من الفقهاء والمجتهدين، أم صدرت من الحكام؟، وقد لمسنا أن هناك فرقًا شاسعًا بين أدلة الأحكام، وأصول الأحكام، ومصادر التشريع، فلكل عبارة دلالتها ومفهومها ومعناها الذي يخالف الأخري، ومن هذا الخلط الذي قام به الفقهاء وقولهم بالترادف في علم أصول الفقه وصلت الأمة للحال التي هي عليها الآن من فرقة وفوضي وتشرذم وخلافات لا يعلم مداها إلا الله وحده. وقد عرّف بعض الأصوليين الدليل بأنه: ما يستفاد منه حكم شرعي عملي علي سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حكم شرعي علي سبيل الظن، فهو إمارة لا دليل. ولكن المشهور في اصطلاح الأصوليين أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقا، أي سواء أكان علي سبيل القطع أم علي سبيل الظن، ولهذا قسّموا الدليل إلي قطعي الدلالة، وإلي ظني الدلالة. وبناء علي ما تقدم نجد أن الأصوليين قد وضعوا إلي الأدلة الشرعية (النص الديني) أدلة أخري (نصوصا دينية) واعتبروها أدلة شرعية كذلك تتوازي وتتماثل في قدسيتها وفرضيتها مع النص الديني الحقيقي الصادر من الخالق سبحانه، فقالوا: (الأدلة الشرعية بالإجمال: ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلي أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين علي الاستدلال بها، واتفقوا أيضاً علي أنها مرتبة في الاستدلال بها بهذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس. أي أنه إذا عرضت واقعة، نظر أولاً في القرآن، فإن وجد فيه حكمها أمضي، وإن لم يوجد فيها حكمها، نظر في السنة، فإن وجد فيها حكمها أمضي، وإن لم يوجد فيها حكمها نظر هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور علي حكم فيها؟ فإن وجد أمضي، وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلي حكمها بقياسها علي ما ورد النص بحكمه) انتهي. وهذا الكلام خطير جدًا وكارثي بكل المقاييس، إذ جعل الأصوليون من السنة والإجماع والقياس أدلة شرعية أي نصوصا دينية تتوازي تماما في قدسيتها ووجوب اتباعها مع القرآن الكريم، ومن ثم كان هذا الكلام الخطير هو الشرارة الأولي التي عملت منذ قرون طويلة علي تمزيق الأمة الإسلامية وتفرقها وتشتتها وانقسامها إلي فرق ومذاهب وجماعات عملت جميعها علي إضعاف الأمة الإسلامية وانسحابها من قافلة الحياة.