مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي يعيش اليوم ومنذ قرون عديدة فوضي في الفكر الديني، فوضي ليست علي مستوي المؤسسات الدينية والثقافية فقط، وليست علي مستوي النخبة المثقفة فقط، بل امتدت هذه الفوضي الدينية إلي الأفراد في شتي أنحاء العالم الإسلامي. وبنظرة سريعة إلي هذه الفوضي الفكرية الدينية، في النواحي الفقهية والتشريعية، تتأكد لنا قناعة واضحة أكيدة أن هذه الفوضي في الفكر الديني ليست إلا حصادا لما يسمي بالاجتهاد الديني، الذي اخترعه الفقهاء بحجة بذل الجهد للوصول إلي الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة. إن اختراع مفهوم الاجتهاد الديني وإضفاء الشرعية الدينية عليه منذ القرون الأولي للإسلام عمل علي تحويل فهم النص الديني إلي وظيفة يحتكرها قلة من الفقهاء ورجال الدين للسطو علي الدين والتحدث باسمه، كذلك أباح لكل رجل دين أو فقيه حرية وضع تشريعات دينية وأحكام وتكاليف لم يأت بها المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي"القرآن الكريم"ولا حتي السنة"مما أثقل كاهل المسلمين وألزمهم بأحكام وعبادات وتحريم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، بل إن كثيرا من الاجتهادات التي صدرت عن العلماء قديما وحديثا تتناقض تناقضا صريحا مع نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة. والاجتهاد الديني ليس اختراعا قام بابتكاره فقهاء المسلمين فحسب، بل هو اختراع وجد لدي رجال الدين في جميع ديانات الأرض، كان لذلك الاجتهاد أو احتكار وظيفة فهم الدين كثير من الآثار السلبية التي جعلت رجال الدين في كل الأديان يختلقون أحكاما وتشريعات يقوموا بإضافتها إلي الدين وهي ليست من الدين في شيء، فقد أضاف رجال الدين من خلال فرية الاجتهاد إلي الكتب المقدسة كثير وكثير من الاعتقادات والتشريعات والأحكام والتحليل والتحريم التي لم يأت لها ذكر علي الإطلاق لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، ولا تمت بصلة إلي الكتب المقدسة، وإنما هي محض اختلاقات قام بوضعها رجال الدين بحجة الاجتهاد الديني، فحين تحول فهم الدين إلي وظيفة احتكرها أناس بعينهم من دون الناس جميعا علي مدي تاريخ جميع الأديان، مهد ذلك لرجال الدين وبرر لهم عدم الاكتفاء بما جاء في النصوص المقدسة من اعتقادات وتشريعات وأحكام وحلال وحرام، وجعلهم يقومون باختلاق أكذوبة الاجتهاد لأغراض شتي منها علي سبيل المثال: مواكبة التطورات والمستجدات وذلك لمحاولة تديين كل شيء علي وجه الأرض. استحداث أحكام دينية لم تأت بها الكتب المقدسة. استيلاد واستنساخ أحكام جديدة بناء علي أحكام الكتب المقدسة. التلاعب بالدين لأغراض سياسية. شرعنة رغبات وشهوات وحماقات الحكام. إخضاع الشعوب بصورة أبدية ومستمرة لنزوات وأهواء رجال الدين. وسوف نأخذ الاجتهاد الإسلامي نموذجا لموضوعنا، وسوف نركز في هذه السلسلة من المقالات علي جوانب متعددة من جوانب الاجتهاد الديني كمفهوم الاجتهاد الديني" و "شرعية الاجتهاد الديني". أما مفهوم الاجتهاد الديني فقد وضع له الفقهاء والمفكرون قديما وحديثا عدة تعاريف نذكر منها علي النحو التالي: (الاجتهاد هو: "استفراغ الجهد في الوصول إلي الأحكام الشرعية التفصيلية" أو هو: "عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة" أو هو: "فهم الحكم المستنبط من النص وعدم تجاوز النص، أو إمكانية تجاوز النص كما اجتهد عمر بن الخطاب في وقف سهم المؤلفة قلوبهم، ورفع حد السرقة في عام المجاعة". ويستفاد من استقراء هذه التعاريف لمصطلح الاجتهاد الديني أن الاجتهاد قد تم اختراعه علي أيدي الفقهاء القدامي بحجة البحث عن حكم واقعة جديدة أو مستحدثة ليس فيها نص قطعي محكم، عن طريق الاستيلاد والاستنساخ والتفصيل والقياس علي نصوص قطعية محكمة. بمعني أن أي حادثة أو واقعة لم يرد لها حكم شرعي أو نص مفصل واضح في القرآن أو السنة، يقوم الفقهاء وعلماء الدين بتفصيل واستنساخ حكم شرعي جديد لهذه الحادثة أو الواقعة من نصوص قرآنية أخري أو نصوص من السنة فيها تشابه بين أسباب وعلة الواقعتين أو نتائج متشابهة بين الواقعتين القديمة والحديثة، وهذا ما يسميه الفقهاء بالقياس والاستنباط. *باحث إسلامى - مقيم فى اسيوط