من البديهي والواقعي لدي أهل الأرض قاطبة أن الدين والتشريع الديني مصدرهما الله وحده، لقوله تعالي: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، فالتشريع الديني هو فرادة إلهية تقتصر علي الله وحده، ولا يحق لأحد ولا يحل له أن يدعي لنفسه أو لأحد غيره أنه يقاسم الله في هذه الفرادة الخاصة التي تفرد الله بها واختص بها نفسه دون أحد غيره، إلا أن الفقهاء والأصوليين قد التبس عليهم الأمر في بعض نصوص القرآن الكريم مما جعلهم يقعون في هذا الخطأ الجسيم الذي من خلاله جعلوا لولاة الأمر الحق في التشريع الديني ونصبوهم بذلك شركاء لله من حيث لا يعلمون، أو من حيث لا يشعرون. ومن أكثر النصوص التي التبس فهمها عليهم كان نص آية النساء، حيث قالوا: (أما البرهان علي ذلك: فهو قوله تعالي في سورة النساء: (يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)، فالأمر بإطاعة الله وإطاعة رسوله، أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بإطاعة أولي الأمر من المسلمين أمرٌ باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلي الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع، لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلي الله وإلي الرسول لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم، فالآية تدل علي اتباع هذه الأربعة) انتهي. فمن هذا الكلام نري أن الفقهاء والأصوليين في قراءتهم لهذه الآية قد وقعوا في خطأين جسيمين الأول: قاموا بتغيير منطوق النص في أولي الأمر من مقصده ومدلوله الحقيقي الذي يعني الحكام والولاة والأمراء الذين يسوسون الناس ويقومون بتولية أمورهم في الحكم والسياسة وإلحاق هذا المدلول ل(أولي الأمر) وجعلوه يدل علي المجتهدين في الدين وأسموهم بأولي الأمر التشريعي، وهذه التسمية هي فرية عظيمة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانت دعوة إلي ما يشبه محاكم التفتيش التي نصبت مجموعة من رجال الدين وأوكلت إليهم مهمة فقه وفهم الدين هم وحدهم دون غيرهم من الناس، وفرضت علي سائر الناس اتباعهم وأوجبت عليهم طاعتهم دون تردد علي اعتبار أنهم المكلفون من قبل الله بهذه المهمة، أو أنهم الوحيدون المتحدثون باسم الله، وبناء علي هذا الفهم الخاطئ من قبل الفقهاء والأصوليين لآية النساء هذه، جعلوا من الفقهاء ورجال المؤسسات الدينية علي مر العصور الإسلامية جعلوا منهم ولاة أمور للمسلمين في فهم النص الديني وحدهم دون غيرهم، بل إن الأدهي والأمر أن هذا الفهم الخاطئ قد جعلهم يجترئون علي الله ويبيحون للفقهاء والمجتهدين ويمنحونهم الحق في التشريع ليس الوضعي بل للتشريع الديني. ولو عدنا لنص آية النساء وقمنا بقراءتها مرة أخري لوجدنا أن المنطوق الحرفي الحقيقي لنص هذه الآية لا يعني جملة وتفصيلا ما قصده الفقهاء والأصوليون من مفهوم يعني أن علي المسلمين طاعة أولي الأمر في التشريع الديني ويقصدون بهم المجتهدين وفقهاء الدين، فنص الآية يقول: (يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)، هذه الآية توجه الخطاب إلي الذين آمنوا كل الذين آمنوا بأن يطيعوا الله ورسوله، إلا أن الفقهاء ظنوا أن ذكر عبارة (أولي الأمر) بعد عبارة: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) أن (أولي الأمر) ينضمون إلي الله والرسول في وجوب طاعتهم، وأن طاعتهم مفروضة وواجبة علي الذين آمنوا كفرض ووجوب طاعة الله ورسوله، ومن هنا كانت الكارثة التي حلت بالمسلمين طيلة تاريخهم الديني. ويثور هنا سؤال مهم وهو: ألا هل (أولو الأمر) مصدر من مصادر التشريع الديني؟، في المقال القادم سوف نجيب علي هذا السؤال.