ربما لم يطفئ نار أحداث الانتخابات، في مرحلتها الأولي، بالنسبة لي وللكثيرين غيري غير أحداث أخري، قد تكون أقل أهمية بالنسبة للوطن، ولكنها مهمة بالمقاييس الثقافية والحضارية وأيضًا أضيف هنا المقاييس الإعلامية وأعني بهذا مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وتغطياته عبر التليفزيون، وربما لم يفوق افتتاح المهرجان في دورته الرابعة والثلاثين هذا العام في تعامل المرء معها من داخلها، أي داخل قاعة دار الأوبرا الكبيرة سوي العرض التليفزيوني، هذا الافتتاح الذي قامت به قناة «نايل سينما» إحدي قنوات النيل المتخصصة، بمعني أنه إذا كان حفل الافتتاح قد جاء هذا العام في أفضل وأكمل صورة فارقًا عن السنوات السابقة للمهرجان في أغلبها، فإنه لم يفقد جماله وحرارته عند نقله بالتليفزيون إلي البيوت، بداية من المقدمة الاستعراضية الموسيقية الراقصة البسيطة والقصيرة تعبيرًا عن شعار المهرجان هذا العام، وهو وجه الملكة الفرعونية الجميلة نفرتيتي في اختيار جاء معبرًا عن هوية حضارة مصر التاريخية أو جزء من هويتها التي لا يشاركها فيها أحد مطلقًا وحيث لا تعبر الحضارة الفرعونية إلا عن المصريين القدماء فقط. وليت هذا الشعار يستمر كل عام مع تغيير الوجه من نفرتيتي إلي نفرتاري أو رمسيس ليحمل إلي العالم وجهًا جديدًا من أوجه هذه الحضارة العظيمة التي يأتي إليها السائحون الأجانب ليقفوا بالساعات في تأمل روعتها، فهل نكون نحن أقل احتفاءً بها في احتفالاتنا؟ من هنا أحيي إدارة مهرجان القاهرة علي هذه الفكرة وادعوها لاستمرارها مع التنوع في السنوات المقبلة، جاء الحفل حافلاً بالجهود الفنية الرائعة فيما يخص خلفيات المسرح وعمقه والديكور والإضاءة وتلك الإضافة لتقديم لجان التحكيم بوضع مائدة في العمق تجلس عليها اللجنة بأكملها ثم يخرج كل فرد منها إلي المسرح ليحيي الناس، كذلك المكرمون وتلك اللقطات من أعمالهم وحياتهم وأنني كنت أري أن الشاشة جاءت أصغر مما يجب وكان بالإمكان تكبيرها ليصبح العرض أفضل، خاصة مع الراحلين الكبار أمثال أمينة رزق والمليجي. والسؤال الذي تبادر إلي ذهني، وأنا أستعيد هذا الافتتاح في اليوم التالي، من موقع مختلف، تحولت فيه من مشاهدة للحدث عن قرب شديد، إلي مشاهدة عن بعد من خلال الشاشة الصغيرة، و«جو» العرض المنزلي، السؤال ليس هو وجود فارق في الحدث، وإنما ما هي ملامح هذا الفارق؟ وإلي أي درجة يختلف وجودنا في المكان الحدث، عن رؤيتنا له عن بعد؟ وهل من الممكن أن يصبح الغياب حضورًا.. أي أن يتحول غياب الإنسان عن حضور الحدث في مكانه إلي حضور أفضل له من زاوية الرؤية الأشمل لهذا الحدث بفعل نقل كل جوانبه من خلال فريق عمل نشط وقادر علي إحاطة المشاهد بكامل زوايا الحدث؟ كان سبب تلك الأسئلة.. هو الافتتاح التليفزيوني الذي أعيد في صباح اليوم التالي، والذي جاء مختلفًا كثيرًا عن الافتتاح الحي الذي كنت أحد حضوره في الليلة السابقة، ذلك أن هذا الافتتاح التليفزيوني بقدر ما أخذ من أصل الافتتاح عناصر جودته، إلا أن تفوقه جاء من خلال تلك التغطية الشاملة لتفاصيل ما قبل وما بعد الافتتاح، تمامًا مثل حفل الأوسكار الشهير، ومهرجان كان وغيرهما من الأحداث السينمائية الكبري في العالم. وهذه الأحداث عادة لا يشاهدها حضور المهرجان أنفسهم سوي في الدقائق التي يقضونها قبل الدخول إلي قاعة الاحتفال والدقائق الأخري بعد خروجهم، لذلك وجدت نفسي في اليوم التالي وكأنني «شاهد ماشافش حاجة»، ولأكتشف مثلاً، عبر هذا الكم من الكاميرات التي وزعت في كل مكان في جنبات دار الأوبرا، سواء خارج القاعة الكبري للاحتفال أو داخلها، وتلك السجادة الحمراء الفخيمة «الردكاربت» الممتدة عبر ممر طويل يقطعه الضيوف تصورهم الكاميرات ومعها جيش من مقدمي ومقدمات البرامج لكل القنوات المهتمة، وهي كثيرة للغاية، بداية من نايل سينما والقناة الثانية المصرية إلي كل قناة عربية وأجنبية لديها اهتمام وإمكانية لإرسال فريق عمل لتغطية افتتاح أكبر مهرجان سينمائي في العالم العربي والشرق الأوسط. حوارات هنا وهناك، وصراع علي النجوم، خاصة إذا كانوا من ماركة ريتشارد جير وجوليت بينوش العالميين ومعهما العالمي المحلي عمر الشريف، ومستويات من الأداء والأسئلة بين هؤلاء المقدمين والمقدمات للحوارات تحتاج إلي وقفة خاصة حول معني وقيمة الإعداد وهذه لها وقت آخر، لكن ملامح الصورة بعد تجميعها كانت مبهرة ومدهشة من خلال الشاشة الصغيرة، مع الأهم الذي أضيف عبر هذه التغطية، وهو تلك الكاميرات التي وضعت في أماكن مرتفعة لتقدم صورة بانورامية رائعة لموقع الأوبرا والمنطقة المحيطة بها، وفي قلبها نهر النيل بسحره في الليل تتلألأ في مياهه انعكاسات أضواء المراكب العائمة والفنادق العملاقة بألوانها وطرزها المختلفة لتقدم لنا أجمل (كارت بوستال) هذا العام لتلك العاصمة الجبارة، القاهرة، التي تدفعك إلي الإعجاب ثم الجنون، فكيف تتمتع عاصمتنا بهذا الجمال الساحر ليلاً، والذي ينسجم تمامًا مع رائعة عبدالوهاب ومحمود حسن إسماعيل في مديح النهر الخالد (مسافر زاده الخيال والسحر والعشق والظلال) وبين هذه المدينة التي تتحول إلي كابوس بالنهار، بمرورها الخانق والمختنق، وزحامها الشديد بالبشر، وزبالتها.. وبالطبع قد يقول لي البعض، مادمت تعرفين هذا فعن ماذا تتحدثين؟ وأجيب.. بأنني أرفض ما أري، في كل الأوقات، وليس وقتًا واحدًا فقط، وهذا السحر والجمال هو ما رأيته في تلك اللحظات من القاهرة عبر شاشة نقلت احتفالاً لهم، وملمحاً رئيسياً لمدينة يكمل هذه الصورة، وكأن قائد هذا العرض التليفزيوني المسئول عن هذا الفريق استطاع قراءة الصورة كاملة وترجمتها إلينا بصدق، ليس عبر خداعنا، أو استعمال تأثيرات الكمبيوتر جرافيك في تحسينها، وإنما كان كل ما فعله هو أنه سلط كاميراته التي وزعها بدقة علي موضوعه المطلوب تغطيته، في نقل وتقطيع رصين وسط كل هذا الزخم، مبرزًا أجمل ما فيه، مضافًا إليه تلك المظاهرة الفنية من كل نجوم ونجمات مصر والعالم العربي والعالم وهم في أبهي أرديتهم، وحتي المدعوون العاديون تباروا في ارتداء أجمل ما لديهم وكأنهم متوجهون لعرس، وكان من بينهم صحفيون ومحللون سياسيون وسياسيون كبار حرصوا علي الحضور في ظاهرة لافتة تحسب لهم وللمهرجان، هؤلاء الذين كانوا حتي 48 ساعة قبل الافتتاح مغروزين لشوشتهم في الانتخابات. لقد أكدت لي هذه التغطية عدة أمور، أولها: أهمية وجود قناة مخصصة للسينما ضمن باقة القنوات المصرية فمن العيب أن تتواجد في أي مكان حولنا قناة سينمائية قبلنا، وهذه ليست شوفينية وإنما استحقاق وما قدمته (نايل سينما) من تغطيات داخل مصر لمهرجان (الإسماعيلية) و(الإسكندرية) والقومي ومهرجان الفيلم الأوروبي أخيرًا ثم تغطياتها خارج مصر هو إضافة حقيقية لنا كمشاهدين، ولكثيرين أصبحوا لا يجدون متعة في حياتهم إلا عبر الفرجة من خلال شاشتهم المنزلية. الأمر الثاني: هو أننا شعب بقدر ما يري يوميًا في حياته من ألوان القبح لديه أيضًا مصادر للجمال يرتوي منها، وأنه شعب محب للحياة (ولو كره البعض هذا)، وأنه بلد سيظل هكذا ولن يستطيع أحد أن يأخذ منه مصادر البهجة مهما حاول، أما الأمر الثالث: فهو أننا قادرون علي التعلم والتقدم ومحاكاة أفضل مستويات الغير حين نحسن استخدام ما لدينا من إمكانيات فنية وبشرية.. وهو ما حدث في هذه التغطية لهذا الافتتاح.