سمعت عن الفيلم قبل مشاهدته. طالبة من أصل فلسطيني حدثتني عن الفيلم بحماس شديد وقالت إنها شاهدته أكثر من مرة وأعجبها كثيرا، خاصة من الناحية الإنسانية. سألتني لماذا لم أعرضه في الصف، وأجبتها أن الفيلم يعتبر فيلما اسرائيليا، ونحن لا نعرض أفلاما اسرائيلية في صف السينما العربية. كنت في الحقيقة أداري حنقي علي الفيلم، فلا شيء يمنع عرض فيلم اسرائيلي علي الطلاب ومقارنته بفيلم فلسطيني، خاصة أن فيلما مثل "عجمي" يتناول حياة عرب الداخل فضلا عن أنه من إخراج عربي اسرائيلي هو سكندر قبطي بالاشتراك مع يارون شاني. لكني تمسكت بموقف التجاهل وأجلت مناقشة الفيلم مع الطالبة المتحمسة لأجل غير معلوم. صف السينما العربية يجتذب نحو ستين طالبا. وتوقعات الطلاب واحتياجاتهم المعرفية تؤثر عادة علي اختيار المادة وعلي أسلوب التناول، خاصة في المحاضرات التأسيسية مثل كورس السينما العربية، وهو الوحيد الذي يدرس بجامعة أوتاوا. ستون طالبا عيونهم معلقة بي لمدة ثلاث ساعات أسبوعيا، المفترض أن يخرجوا من المحاضرة وقد فهموا شيئا مختلفا عن السينما العربية، عن أهم قضاياها ومخرجيها وملامحها الجمالية وسياقات الإنتاج والتوزيع فيها وعن نسق القيم المتعارف عليه في المجتمعات العربية، كيف تؤكده الأفلام السائدة وكيف تختلف عنه وتنتقده أفلام قليلة أخري...المفترض أن تأتي معرفتهم بالسينما العربية مكملة لمعرفتهم بالمجتمع العربي وأن تضيف إليهم الخبرة الجمالية قدرا من المعرفة بمبادئ الدراما والتشكيل البصري والأنواع السينمائية وتاريخها وقواعد صناعة السينما وطرق التحايل عليها. السينما الفلسطينية واحدة من تلك المحطات التي نتوقف عندها في الصف. نشاهد فيلما لميشيل خليفي، عادة "عرس الجليل"، وفيلما لإيليا سليمان أو هاني أبو أسعد، عادة "يد إلهية" أو "عرس رنا". بعض الطلاب لا يعرفون الفرق بين السينما الفلسطينية والسينما الإسرائيلية، وبعضهم يتصور أن اسرائيل دولة عربية، والبعض الثالث لا يدرك الفرق بين اللغتين العبرية والعربية. لذا يتطلب الأمر وقفة تاريخية ومراجعة للمعلومات الأساسية المطلوب معرفتها عن الواقع الفلسطيني، عن المجتمع الريفي وعن ارتباط الإنسان الفلسطيني بالأرض وحلم العودة، عن حركات التشتيت المتكررة علي مدار أكثر من قرن وعن الفرق بين عرب الداخل وعرب الخارج، عن المنفي الداخلي الذي يعاني منه الفلسطينيون في الداخل والعنف الواقع علي فلسطينيي الضفة الغربية وغزة. كثير من المعلومات الأولية غائب عن الطلاب، لذلك يتحول الفيلم لأداة معرفة أساسية تلفت أنظارهم لما يعيشه الفلسطينيون داخل وخارج الحدود، في السينما وفي الواقع، قبل الانتقال لتحليل بعض مشاهد الفيلم وفهم أبعاده الجمالية. المعيار الرئيسي في اختيار الأفلام هو المعيار الجمالي، وهو معيار متحقق في فيلم "عجمي"، رغم ذلك قررت عدم عرضه أو مناقشته في الصف. لا شك أني متحيزة ضد الفيلم وأحاول أن أبرر تحيزي بشكل موضوعي للأسباب التالية: "عجمي" حي شهير في يافا تسكنه أغلبية عربية فقيرة. الفيلم يحكي خمس قصص قصيرة لخمس شخصيات تربط بينهم علاقات قربي أو صداقة أو عمل، يقيمون في هذا الحي، أو يعملون فيه، فلسطينيون يتحدثون العبرية بطلاقة، وفلسطينيون يتسللون عبر الحدود للعمل في الحي ولا يتكلمون إلا العربية، واسرائيليون يعملون بالشرطة مسئولون عن إقرار الأمن في الحي، يحققون في مقتل رجل يهودي مسالم علي يد فلسطيني مشاغب، أو يطاردون تجار المخدرات والشباب الفلسطيني المنخرط في العمل معهم. الفيلم يبدأ بمشهد اغتيال شاب فلسطيني علي يد اثنين من الملثمين، نعرف أنهما من البدو وبينهما وبين الأسرة الفلسطينية المستهدفة بعملية القتل ثأر بائت، يتم حله في مجلس عرب بدفع دية باهظة. المشكلة التي يواجهها العرب في هذا الفيلم مشكلة داخلية دائما، لا تخص الاحتلال الاسرائيلي بأي صورة من الصور. يشير المخرج عرضا لفكرة الاضطهاد الذي يعاني منه عرب اسرائيل وهم أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، يعاملون بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. لكنه لا يتوقف عند هذا الاضطهاد المقنن كثيرا. يتوقف أمام حقائق من نوع آخر، منها أن العرب البدو يقتلون العرب الفلسطينيين، وأن شباب الحي ينخرط في إدمان أو توزيع المخدرات لحل مشكلة الفقر أو دفع دية أو علاج أم مريضة من أهالي الضفة في مستشفيات اسرائيل. الفيلم يتعرض أيضا لعرب اسرائيل الأثرياء (خاصة أسرة مسيحية) الذين يساعدون إخوانهم من الفلسطينيين ولكن دون الإضرار بمصالحهم الخاصة، والفيلم يقول إن دم اثنين من الشباب الفلسطينيين القتلي في نهاية الفيلم عالق بيدي عائل تلك الأسرة الفلسطينية المسيحية حيث يشي بهم للشرطة. الشرطي الإسرائيلي الوحيد الذي ندخل بيته هو في الحقيقة أب رقيق يرعي ابنته الطفلة ويحنو علي أبيه الحزين بسبب اختفاء ابنه الثاني المجند في الجيش الإسرائيلي. تحتل قصة الشرطي وأسرته وأخيه الغائب مساحة من الفيلم، نتابع بلهفة انتظارهم وترقبهم لعودة الغائب، ثم عثورهم علي جثته في كهف بالضفة الغربية، مقتولا بخسة، وليس في معركة حقيقية، علي يد فلسطيني مجهول. كل تلك "الحقائق" وغيرها يقدمها المخرجان بأسلوب ممتع، يعتمدان علي ممثلين غير محترفين وعلي ورش عمل مكثفة يستخلص كل ممثل من خلالها أبعاد الدور المطلوب منه. الفيلم بلا سيناريو مكتوب، أو علي الأقل لم يتح للممثلين قراءته إذ كانوا مطالبين في معظم الوقت بارتجال جمل الحوار. الكاميرا محمولة علي الكتف. والصور خارج الفوكس أحيانا، والمونتاج يعيد انتاج نفس الحدث أكثر من مرة، ويعيد تصحيح الأحداث لو لزم الأمر. أسلوب الفيلم بشكل عام يقترب من السينما التسجيلية كأنه يقول إن ما نشاهده علي الشاشة ليس خيالا بل حقيقة واقعة لها أبعاد مختلفة ويمكن رؤيتها من زوايا مختلفة. حرفة جميلة توضع في خدمة خطاب أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه مراوغ. لكننا بإزاء فيلم اسرائيلي وليس فيلما فلسطينيا، ليس مطالبا بأكثر من التعاطف مع هوان العرب في الداخل. فيلم يدعو المتفرجين لأن يفتحوا أعينهم، وإن كان يتعمد أن يفتح أعينهم علي حقائق بعينها دون غيرها.