لست أحدثك عن الماضي لحماية نفسي فقط من عبث الحاضر بل لأجعلك أكثر إيمانا وحماسة لما يمكن أن تحققه في المستقبل. ثلاثة وأربعون عاما مرت علي تجربتي المسرحية في أسوان، ومرور كل هذا الزمن يعطيني الفرصة لإدراك مدي ماكان فيها من جمال وقوة. النجاح هناك أخفي كل أخطائي، غير أني أراها بوضوح الآن، وأولها أنني اندفعت إلي خوض التجربة بغير التعرف ولو بالتقريب علي أبعادها ومن ذلك أن خشبة المسرح والقاعة سبق أن التهمهما حريق في منتصف الستينيات، أي أن المسرح ليس جاهزا لتقديم عرض مسرحي، لقد خدعتني الأخبار المنشورة في الجرائد والتي تكلمت عقب الحريق عن أن الشركات العاملة في أسوان تعهدت بإصلاحه علي الفور، لقد تصورت أنها قد انتهت من إعادة المسرح إلي ما كان عليه وذلك بإمكانياتها الواسعة، الواقع أن هذه الشركات بالإضافة لهيئة السد العالي تعهدت بإصلاح القصر غير أنها لم تجد أحدا يطاردها أو يتابعها فظل المسرح علي حاله عاجزا عن العمل. حسنا.. لا بأس سنجد طريقة لتقديم العرض، بالتأكيد يوجد مسرح متنقل.. أين هو؟ فسحبني عم حسين من يدي إلي ركن بعيد وأشار إلي كومة أخشاب لا تصلح لشيء وقال: هذا هو ما تبقي منه. تأتي لحظات في الحواديت القديمة يقف فيها الشاطر حسن في مفترق طرق، هي سكك ثلاث، سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللي يروح ما يرجعش، سكة السلامة لا تناسبني، لأنها تخلو من المغامرة والأخطار لذلك هي غير ممتعة، هي تناسب فقط الموظفين والمسئولين السياسيين، أما سكة الندامة فأنا أرفضها بكل الوعي، أنا أكره الندم والندامة، وأحب الندامي أو الندمي كما تقول أم كلثوم في ليلة العيد. ولأنني أكره سكة الندامة لذلك أحرص كل الحرص علي عدم فعل ما يمكن أن أندم عليه. السكة التي تناسبني حقا هي سكة اللي يروح ما يرجعش، إنها السكة الوحيدة التي تكتشف فيها نفسك وتتعرف فيها علي قدراتك، لقد جئت إلي أسوان لتقديم عرضين مسرحيين، ولا يوجد مسرح يصلح لذلك، هل أعود إلي القاهرة مسلحا بقفة أسباب وتبريرات للفشل؟ لحسن حظي كان كل موظفي القصر بشراً متعاونين ويريدون فعلا أن تعود الأضواء إلي القصر والمسرح، قلت لهم: أنا أعرف أن الشركات هنا تعهدت بإعادة المسرح إلي ماكان عليه، أين هو هذا التعهد؟ علي الفور أحضروا ملفا منتفخا: هذا هو محضر الاجتماع. كان القصر مجهزا بعربة نقل يقودها شاب ظريف، وعلي الفور قررت الانتقال إلي مقار الشركات والهيئات التي تعهدت بإصلاح المسرح، واستخدمت هذه السيارة في تنقلاتي لمقابلة المسئولين، أشهد أن جميع المسئولين في هذه الشركات استجابوا لطلبي علي الفور عندما عرضت عليهم محضر التعهدات، تطلب الأمر أن أقابل ابراهيم زكي قناوي نائب رئيس هيئة السد العالي، كان متوترا بفعل ضغط العمل فقال لي: نحن مشنوقون هنا في السد العالي وتأتي أنت لتكلمني عن المسرح؟ فقلت له بأدب: لا تستطيع أن تهتم بالسد العالي بغير أن تهتم بالمسرح، لأن المسرح هو من سيصنع الناس التي تحافظ علي السد العالي. المشهد التالي أشهد أمام الله والتاريخ أنه حدث بعد الظهر، فوجئت بالرجل وقد جاء بنفسه إلي القصر ومعه جيش من العمال والمهندسين، كان يناقشهم بنفسه في خطوات العمل ونوعية الخامات المطلوبة، في اليوم التالي لزياراتي للمسئولين في المقاولين العرب، وشركة مصر لأعمال الكهرباء ( معذرة إذا لم يكن الاسم صحيحا) وهيئة السد العالي، جاء الجميع لإعادة المسرح إلي بهائه.